
العراق… معادلة نفط الشيعة ومياه السنة
صادق الطائي
حرير- بتأثير تصاعد توتر الوضع في سوريا، تتصاعد التوترات السياسية في العراق، خصوصا وهو مقبل على انتخابات برلمانية نهاية هذا العام. التوتر هذه المرة لبس لبوسا تقسيميا بحدة، وعادت إلى الواجهة أطروحات الأقاليم والفيدرالية وحتى الكونفدرالية بصفتها، خطوة أولى في مسار تقسيم البلد.
قصة العراق مع المركزية واللامركزية الإدارية في الحكم والسياسة قديمة، وكانت أطروحات اللامركزية في العهد الملكي والجمهوريات الأولى تعامل معاملة الخيانة العظمى. والأنكى في كل ذلك كان مشكلة أكراد العراق، وحال مدنهم في شمال العراق، ومطالبتهم المستمرة بأخذ وضعهم الخاص بعين الاعتبار وإحقاق حقهم في الخصوصية القومية والثقافية، والمطالبة بترجمة هذه الحقوق إلى نمط من الإدارة المحلية اللامركزية التي تراعي هذه الفروقات.
لا يمكننا الحديث عن الفيدرالية واللامركزية في العراق، من دون أن نسلط الضوء ولو بعجالة على حجر الزاوية في هذه المشكلة العراقية، وأعني بها المسألة الكردية. فالعلاقة بين كرد العراق وعربه، على المستوى السياسي مرت بعقودٍ من الصراع السياسي، والقتال المسلح، الذي نتج عن التمرد والانتفاضات الكردية ضد الحكومات المتعاقبة. حتى وصل الحال إلى إقرار قانون الحكم الذاتي في 11 مارس/آذار 1970 بين القائد الكردي ملا مصطفى البارزاني، وحكومة البعث. وكان العراق حينذاك أول بلد في المنطقة يطبق قانونا للحكم الذاتي بحق الأكراد، يشتمل على نوع من اللامركزية الإدارية لحفظ حقوق الكرد القومية والثقافية. ولأن نوايا الطرفين (حكومة البعث والبارزاني) لم تكن خالصة للمصلحة الوطنية ، فسرعان ما انهار الاتفاق، وعاد الاقتتال مجددا حتى عام 1975، عندما انهار الحزب الديمقراطي الكردستاني، ورحل الملا مصطفى البارزاني خارج العراق، وأنهت حكومة بغداد التمرد المسلح في كردستان، وطبقت نوعا من الحكم الذاتي تحت سيطرة الحكومة المركزية الصارمة.
لاحقا ومن جانب آخر،عبر عقود من النضال السياسي والكفاح المسلح ضد نظام صدام، أنضج الكرد مفهوم الفيدرالية في طروحاتهم السياسية، وبات مطلبهم بقيام عراق اتحادي بندا رئيسيا يوضع على طاولة المباحثات قبل أية مفاوضات، أو اجتماعات لفصائل المعارضة العراقية، سواء أكانت هذه المفاوضات بين فصائل المعارضة المتناقضة التوجهات، أو بين المعارضة العراقية من جهة والأطراف الخارجية الداعمة لها.
النتيجة كانت إقرار وجود إقليم كردستان الذي عاش نوعا من الاستقلال طوال حقبة التسعينيات، وضم الإقليم المحافظات الكردية الثلاث (السليمانية ودهوك وأربيل) وتمتع بكينونة قانونية راسخة بعد 2003، وكما أصبح لإقليم كردستان العراق وجود دستوري، بعد اقرار دستور العراق عام 2005، الذي شرع إقامة الأقاليم لمن يرغب من العراقيين، سواء بتحول محافظة واحدة الى إقليم، أو باتفاق عدة محافظات للدخول في إقليم جديد، لكن هذا التوصيف الدستوري بقي حبرا على ورق، ولم يسمح لغير الكرد بإقامة أقاليمهم. كل من طالب بإقامة إقليم كان يواجه باتهامه بأنه يحاول تفتيت وتقسيم العراق، إذ طرحت مبكرا قوى سياسية، يقف في مقدمتها السياسي باقر ياسين إقامة اقليم الجنوب، الذي يضم محافظات (البصرة والناصرية وميسان) لكنه ووجه بتعنت أفشل الفكرة. ثم طرح بعض السياسيين يقف في مقدمته القاضي وائل عبد اللطيف فكرة إقامة إقليم البصرة وأيضا تم التصدي للمشروع وإفشاله. وحتى بالنسبة لمحافظة كركوك التي تعاني من تنازع القوى الكردية والشيعية والسنية عليها، قام البعض بطرح فكرة تحويلها إلى إقليم، إلا أن الفكرة حوربت من مختلف القوى السياسية. لكن الأمر الأخطر والأكثر نزوعا نحو التقسيم والملتف بمفهوم الفيدرالية، كان مشروع الإقليم العربي السني، الذي يضم المحافظات السنية العربية في غرب وشمال العراق (الأنبار، صلاح الدين، نينوى)، إذ نادت قيادات سنية يقف في مقدمتها خميس الخنجر، الذي أصبح ممثلا لهذا المطلب بإقامة إقليم عربي سني يكون امتدادا للدول العربية السنية المجاورة، الغرض منه الوقوف بوجه التمدد الإيراني في العراق (الشيعي) من جهة، والإقليم الكردي من جهة أخرى. ودارت معارك ولاءات ومصالح بين القيادات السنية، على أثر طرح مشروع الإقليم العربي السني، والنتيجة كانت فشل إقامة الإقليم ، أو إيقاف تنفيذه، ليبقى ورقة ضغط يمكن أن يلوح بها في أوقات اشتداد الأزمات.
بعد سقوط نظام الأسد في سوريا، وصعود نجم الإسلام السياسي السني وسيطرته على مقاليد الحكم في دمشق، تداعت العلاقات الطائفية والإثنية في العراق، ووصلت التصريحات بهذا الشأن مديات غير مسبوقة. إذ انطلقت الجيوش الإلكترونية تروج لإقامة أقاليم ليس الغاية منها التحول من مركزية الإدارة إلى لامركزية تحقق مطالب سكان العراق بطريقة عادلة للجميع، إذ طرح آباء فكرة الإقليم السني مجددا إقامة إقليمهم الذي سيقف بظهره ويدعمه النظام السني الجديد في سوريا، وعلى إثر ذلك تمت الدعوة وبقوة إلى إخراج فصائل الحشد الشعبي المتمركزة في مدن السنة في الشريط الحدودي بين سوريا والعراق. وبالتالي، وحسب رؤية بعض القيادات السنية، إبعاد قبضة أذرع إيران عن مدن السنة في غرب العراق، والمطالبة بإقامة فيدرالية مائعة المواصفات. إذ عادت بعض قيادات السنة في العراق للتلويح بورقة الإقليم السني القديمة بحذافيرها، وتم توصيف المطالب بأنها دستورية، وإن من يرفضها إنما يمارس خرقاً دستورياً، وسيتم اللجوء للمحكمة الاتحادية للفصل في الموضوع. بينما طالب أخرون، ونتيجة الصراعات السنية الداخلية، بلامركزية على أساس المحافظات، ما يؤدي إلى تفعيل الحكومات المحلية التي فازت بانتخابات المحافظات، والمطالبة بتمكينها إدارياً ومالياً، وحتى سياسياً لإدارة مناطق المحافظات، وإبعاد سيطرة بغداد عن إدارة العراق وتحويلها إلى عاصمة اتحادية بروتوكولية يجتمع فيها البرلمان الاتحادي ذو الصلاحيات المحدودة في تسيير الشأن الاتحادي.
هذا الأمر دفع بالمقابل بعض القيادات الشيعية وجيوشها الإلكترونية لطرح المطالبة بإقامة الإقليم الشيعي الذي حدد محافظاته عبد العزيز الحكيم، القيادي في المجلس الإسلامي الاعلى في وقت مبكر، بعد إطاحة نظام صدام حسين، إذ تتم اليوم المطالبة بإقامة إقليم يضم وسط وجنوب العراق، ويبدأ من سامراء شمال بغداد حتى البصرة المطلة على الخليج العربي. وهنا أطلقت توصيفات وتحليلات مستفزة من قبيل؛ «هذا الإقليم سيضم كل ثروات العراق النفطية التي تصرف اليوم على المحافظات السنية والكردية»، أو «عندما سنصبح إقليما ذا إدارة مستقة ستتوفر فرص العمل لشبابنا، لأن نفط الشيعة سيكون للشيعة فقط».
هذه الفكرة طرحها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، بشكل مخفف، فتلاقفتها جيوشه الإلكترونية وعملت على ترويجها وإشباعها بحثا وأرقاما ومعادلات متهافتة عن الثروات التي ستهطل على المواطن (الشيعي) من أموال النفط، وكذلك فرص العمل والرفاه الذي سيعم مدن الشيعة بعد إقامة الإقليم.
فما كان من رئيس البرلمان الاتحادي (العتيد) محمود المشهداني إلا أن يجيب المنادين بـ(نفط الشيعة للشيعة) بأن قال في تصريح رسمي؛ «إذا كان نفط الشيعة للشيعة، فإن ماء السنة للسنة». في إشارة الى إن نهري دجلة والفرات يمران بالمناطق السنية قبل وصولها إلى المناطق الشيعية، وبالتالي فإن السنة سيتحكمون بالمياه ويمنعونها عن وسط وجنوب العراق.
عند هذا الحد المخزي من التنابز، نادى بعض زعران الميلشيات الشيعية بالتهديد بتفجير سد الموصل، الأمر الذي سيتسبب في إغراق مساحات واسعة من محافظات نينوى وصلاح الدين، وسيوفر كميات هائلة من المياه لوسط وجنوب العراق. التوتر الاخير يبدو حتى الان بعيدا عن التدخلات الكردية، إذ يعاني الإقليم من أزمات اقتصادية خانقة، وتوتر غير مسبوق بين أربيل وبغداد، وبالتالي فإن أي ضعف في قوة المركز يعني ضعف قبضة بغداد وتراخيها تجاه أربيل، الأمر الذي يعني فائدة مستقبلية للإقليم.
بتنا نشهد هذا الجنون المتصاعد اليوم وما زالنا بعيدين نسبيا عن موعد الانتخابات البرلمانية نهاية العام. فماذا سيحصل من سعار سياسي عند إقتراب موعد السباق السياسي المقبل نحو تشكيل البرلمان والحكومة الجديدة.



