
لبنان بين منطقتَين عازلتَين
توفيق شومان
حرير- لا يبدو المشهد اللبناني بجزئه الجنوبي باعثاً على تفاؤلٍ يدفع نحو التزام حكومة الاحتلال الإسرائيلي بوقف اعتداءاتها شبه اليومية، جنوباً وبقاعاً، فيما المشهد في نصفه الثاني، عند الحدود مع سورية، يبدو مختزناً عوامل اضطرابٍ عديدة تخبو في حين وتنفجر بعد حين آخر، تماماً مثلما جرت عليه الأحوال الدامية في الأسبوع الماضي، وطوال ثلاثة أيام متعاقبة.
في الجنوب، لم يعد من “أسرار الآلهة” القول إن انسحاباً إسرائيلياً من الأراضي اللبنانية المحتلّة بات قريباً أو متوقّعاً في المدى المنظور، بل على الضدّ من ذلك، فالرسائل الإقليمية والدولية التي تأتي إلى بيروت تباعاً، لا تنطوي على أيّ مؤشّر للانسحاب، وكأنّ أغراضها تميل إلى دفع اللبنانيين إلى التكيّف مع وقائع الغارات الإسرائيلية التي لا تعرف كبحاً لجماحها، ولا وقفاً لعنان نيرانها. ما يمكن ملاحظته في الجنوب اللبناني أن الغارات الإسرائيلية راحت منذ فترة تتخذ ممّا يُعرف بـ”الخطّ الثالث” هدفاً وركيزةً لاعتداءاتها، أي في مناطق النبطية والزهراني، وهي الواقعة شمالي نهر الليطاني وبعيدة نسبياً عن الرقعة الجغرافية التي ينصّ عليها قرار مجلس الأمن 1701، المدرجة في نطاق عمليات الجيش اللبناني والقوات الدولية، الأمر الذي يجعل حركة انتقال الأفراد بين بلدات هذا الخطّ ومدنه غير آمنة ويحول دون استعادة الأهالي دورة حياتهم الطبيعية.
والأخطر من ذلك أن منازل جاهزة كان استقدمها أهالي البلدات الحدودية المدمّرة، غدت أهدافاً للغارات الإسرائيلية، وما بين التعرّض لحركة انتقال الأفراد واستهداف المنازل الجاهزة يكمن “بيت القصيد” الإسرائيلي، الذي يعني (من دون لبس وتأويل) حظر العودة إلى البلدات الجنوبية ومنع إعادة الإعمار، ويترافق ذلك مع استراتيجية إسرائيلية أمنية جديدة تقوم على ثلاثة خطوط، الثاني منها خطّ متقدّم داخل أراضي الدول العدوّة ومن ضمنها لبنان، بحسب مقالة نشرها رون بن يشاي في “معاريف” (26/2/2025).
وأمام هذه الوقائع، تطلّ الأسئلةُ الباحثةُ عن الغايات التي تعمل إسرائيل على تحقيقها، فلا يُعثَر إلا على جواب واحد مضمونه ينهض على مقايضة الانسحاب من الأراضي اللبنانية بشروط متعدّدة، يقبع في رأسها الربط بين العودة وإعادة الإعمار من جهة، وبين دوام الاحتلال أو عدمه من جهة ثانية، وكذلك بين الانسحاب وتطبيع العلاقات بين لبنان وإسرائيل. ومن هنا تأتي المواقف المتكرّرة لوزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، حول بقاء قوات الاحتلال في جنوبي لبنان، فخلال أقلّ من ثلاثة أسابيع قال كاتس مرّتَين، إن الجيش الإسرائيلي باقٍ في التلال اللبنانية الخمس وما حولها، الأولى في 27 من الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، والثانية في الـ14 من الشهر الحالي (مارس/ آذار). ولكن هذه المقايضات الإسرائيلية القائمة على الوعود بالانسحاب، يدرك الإسرائيليون أنها فاقدة قابلية التحقيق، لأن فرص التطبيع مع لبنان غير سانحة وليست متوفرة، ولذلك البديل منها بناء منطقة عازلة وفقاً للخطوط الثلاثة للاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية، التي مرّت الإشارة إليها، وتتضمّن إقامة مواقع عسكرية متقدّمة داخل الأراضي اللبنانية، تكون متكاملةً جغرافياً وأمنياً مع المنطقة العازلة التي يقيمها الإسرائيليون في الجنوب السوري، ومتطابقة مع المنطقة نفسها التي يعمل جيش الاحتلال على إقامتها في قطاع غزّة.
ذاك في الجنوب اللبناني، أمّا في شرقي لبنان، حيث الحدود مع سورية، فمواجهات الأسبوع الماضي بين الجيش السوري الجديد والأهالي اللبنانيين، أعادت إلى الواجهة إشكالية الحدود اللبنانية السورية، وما تحمله من تعقيدات متراكمة منذ استقلال لبنان وسورية في منتصف أربعينيات القرن العشرين، فتلك الحدود التي لم يعمل الطرفان على ترسيمها أو تحديدها وتثبيتها، وكذلك هي الحدود البحرية، تحمل مرتفعاتها ومنخفضاتها وسواحلها عناصر التأزم المستمرّة منذ عقود، ولا يبدو الخروج من تعقيداتها قابلاً للحلّ القريب، إذا لم تتهيأ الإرادات الحسنة والنيات الحميدة بين الطرفَين، ولا الاستعداد الكامل للجلوس إلى مائدة المفاوضات بهدف اجتراح الحلول التي ترضي الجانبَين.
وفي حال اقتصر الحديث على المواجهات الماضية في منطقة البقاع اللبنانية المحاذية للحدود السورية، فالملاحظة التي تتقدّم سواها، تكمن في انتشار الجيشين اللبناني والسوري في مشارف بعض البلدات المتداخلة في الجغرافيَّتَين اللبنانية والسورية، أو في بعض أجزائهما، وهذا يرسم مساحةً فاصلةً بين الجيشين، وبما يماثل المنطقة العازلة التي لا يقترب نحوها هذا الطرف أو ذاك، وعلى ما أعلن قائد اللواء الأول في الفرقة 52 في الجيش السوري، عبد المنعم ضاهر، أن بيروت ودمشق اتفقتا “على انسحاب ضبّاط وجنود الجيشَين السوري واللبناني من أراضي قرية حوش السيّد علي، من دون أيّ وجود عسكري داخلها، إذ يتمركز الجانبان على أطراف البلدة”.
هل يمهّد هذا الاتفاق لمنطقة عازلة بالتراضي أو بمشروع إقليمي ـ دولي، وبصورة تتعدّى فيها المنطقة العازلة مساحة بلدة واحدة، ولتمتدّ إلى عشرات البلدات والقرى المشتركة والمتداخلة بين لبنان وسورية، وبشكل يغطّي شرقي لبناني وشماله إذا ما ذهبت إلى أقصاه، حيث تتداخل الأراضي اللبنانية بالسورية عند جبل الشيخ في جنوب شرقي لبنان، إلى البقاع شرقاً، وأخيراً، صوب الشمال في منطقة عكّار وغيرها؟… هذا السؤال موضع نقاش واسع ومتوتّر في بيروت، وقد ارتفعت وتيرته بعد الصدامات أخيراً بين الجيش السوري الجديد والأهالي اللبنانيين، إذ لا يذهب تقدير موقف واحد إلى عدم توقّع استئناف الصدامات لأيّ سبب كان، وهذه القناعة متأتية من خطورة المرحلة التي يمرّ بها لبنان وسورية، فكلاهما في طور انتقالي حافل بالتشنجات والاضطراب، وما يرفد هذا النقاش بعناصر متوتّرة إضافية، أن الصدامات الأخيرة ليست الأولى، وإنما هي حلقة في سلسلة عرفتها عدة نقاط في طول الحدود اللبنانية ـ السورية، وفي مناطق بيئتها الاجتماعية مختلفة عن البيئة التي تشكّلت فيها أخيراً ميادين الأحداث، ممّا يضيف إلى المشهد عنصر انعدام الثقة، وهذا بحد ذاته فتيل قابل للاشتعال عند أيّ ظن وافتراض وتخمين، وذلك كلّه يؤدّي إلى إعادة طرح السؤال: هل يجري التحضير لإقامة منطقة عازلة بين لبنان وسورية وفي أيّ مساحة تكون؟
في بيروت، لا إجابةَ قاطعةً حول هذا السؤال، الذي يتموضع في صلب كلّ تحليل يتناول مستقبل العلاقات السورية ـ اللبنانية، وعلى هامش ما يجري، تأتي إشارات من دمشق، لم ترقَ (حتى الآن) إلى مستوى الطرح الرسمي، تفيد عن تصوّر سوري أولي لمنطقة عازلة، قد يأخذ طريقه إلى التبلور أو يوضع في دُرج الإهمال والنسيان إذا أعيد تعبيد طريق بيروت ـ الشام على أسس جديدة لم تحدّد دمشق معاييرها بعد. وفي المقابل، ليست في بيروت خريطة طريق واضحة تتبين منه معالم العلاقة الجديدة مع دمشق الجديدة. وبين غياب المعايير وغموض المعالم، يرتفع الحديث المرتاب في المنطقة العازلة… والله أعلم.