مصائر الحرب المستعادة

عبد الحليم قنديل

حرير- سواء توقفت حرب الإبادة المستأنفة على غزة بعد حين، أو استمرت إلى وقت غير معلوم، فإن شيئا لن يتغير في الوضع القلق الرجراج، شديد الخطورة في المنطقة، ولن يتوقف تناسل الحروب على الأرجح، فالعدو الأمريكي الإسرائيلي لم يحقق أهدافه كاملة بعد، رغم أن الوقت يبدو ملائما لصياغة شرق أوسط جديد جغرافيا وسكانيا وسياسيا، ورسم حدود جديدة بفوائض النار والدم، ورغم أن النظم المتهالكة تبدو متحمسة ومستكينة لرغبات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يبدو في صورة الثور الهائج لكن الحائر، الذي يميل أحيانا للجم تصرفات بنيامين نتنياهو وانفلاته الحربي، ثم يعود سريعا إلى القاعدة الذهبية الموروثة في سياسة الإدارات الأمريكية، وهي العمل وفق أولويات اعتبار إسرائيل بقرة مقدسة، تملي رغباتها فيصدع ساكن البيت الأبيض لمقتضياتها، وعلى نحو ما تواتر باطراد، في الأيام الأخيرة، من إلغاء تكليف آدم بولر كمبعوث لترامب لشؤون الرهائن، بعد غضب نتنياهو مع انكشاف حوار بولر مع قادة حماس في الدوحة، ثم إطلاق حملة عسكرية أمريكية هي الأعنف ضد جماعة الحوثي في اليمن، وتصعيد تحرش إدارة ترامب بإيران وبرامجها النووية والصاروخية، ومنح الضوء الأخضر لحكومة نتنياهو وجيش الاحتلال لمعاودة حرب الإبادة في غزة، وجمع صور الجحيم في لوحة واحدة، جحيم أمريكي وجحيم إسرائيلي في الوقت ذاته، وبهدف إذابة المنطقة كلها في زبد الحديد المصهور.

وقد يتصور ترامب أنه يطبق نظريته أو شعاره المعلن عن صناعة السلام بالقوة، لكنه لا يدرك تعقيدات المنطقة، وأصول صراعاتها، فرغم انعدام التكافؤ في موازين القوة النارية، ورغم استعداد الأنظمة الحاكمة في أغلبها للتسليم برغبات ترامب بغير قيد ولا شرط، إلا أنه ـ أي ترامب ـ لا يترك لعرب الدمى من فرص ولا هوامش للمناورة، ويصر على تركها عارية في مواجهة نقمة شعوبها، وفي مواجهة طوفان الغضب الإنساني الشعبي، وينزع عن هذه الأنظمة كل أوراق التوت وستر العورات، ويدعها وحيدة في امتحانات النار، التي تحرق البشر والحجر والشجر في فلسطين وغزة بالذات، وتكشف قيعان العجز والبؤس، التي تحرم هذه الأنظمة من فرص تسويق ما يريده ترامب، فما من عاقل ولا مجنون يصدق، أن إفناء الفلسطينيين هو الطريق لحل القضية الفلسطينية، ولا لخلق بيئة تستسيغ عقد معاهدات تطبيع إبراهيمي جديدة، في غياب أي أفق أو شبه أفق لقيام أي كيان فلسطيني، تعلن الهمجية الأمريكية الإسرائيلية أن لا محل له من الإعراب السياسي، وتدفع بدلا منه إلى صناعة جحيم، يخرج ما تبقى من ملايين الفلسطينيين إلى خارج ديارهم، وتكليف الدول العربية باستيعابهم، وجعل أوطانهم سكنا بديلا للفلسطينيين.

ليست القصة هنا مباراة في الخطط والتصورات، فقد طرحت أنظمة عربية ـ أهمها في مصر ـ خططا بديلة لخطة ترامب في تهجير الفلسطينيين، وصارت الخطة المصرية عربية عامة، بعد قمة القاهرة الأخيرة، وبدت الخطة مقنعة شاملة لكل التفاصيل المتصورة، لكن نقطة البدء فيها ظلت معلقة، فلا يمكن البدء في خطة إعادة إعمار غزة مع بقاء أهلها، إلا أن يكون الاحتلال الأمريكي الإسرائيلي قد جلا وانسحب من غزة، وهو ما بدا أن ترامب متقلب المزاج قد اقتنع به لوهلة، وأعلن في لقاء مع رئيس الوزراء الأيرلندي في البيت الأبيض، أن أحدا لن يطرد الفلسطينيين من غزة، وبدا في الأمر تراجعا لافتا عن خطة الطرد والتهجير والريفييرا إياها، ثم عدنا مجددا إلى نقطة ما تحت الصفر، مع تحمس أبداه ترامب لاستئناف حرب الإبادة والتهجير في غزة، بعد أن كان يتحدث عن نفسه بصفته صانعا للسلام ومتطلعا إلى عقد صفقات تريليونية مع تهدئة النار على الجبهة الفلسطينية، ومن دون توقع أكيد لإغلاق ملف سلام ترامب الموهوم، فلن تكف الأنظمة المعنية عن مناشدة الراعي ترامب لإطفاء النيران، ولن يكف ترامب عن طاعة نتنياهو وجموحه الحربي، المدفوع بالإخفاق المتصل في تحقيق أهدافه، رغم مضاعفة حمم النيران، فلا هو سينجح غالبا في القضاء على حماس وأخواتها من حركات المقاومة، ولا هو سينجح في استخلاص الأسرى الأمريكيين والإسرائيليين بالضغط العسكري، ولا هو سينجح في دفع ملايين الفلسطينيين إلى خارج غزة، ولا مصر ستسمح لاعتباراتها الأمنية الوطنية بتهجير الفلسطينيين إلى أراضيها، ما يعني ببساطة، أن يعود الوضع كله إلى الدوران في حلقات الدم المفرغة، ودون وصول إلى هدف الأمريكيين والإسرائيليين، في كسب رايات استسلام بيضاء من الشعب الفلسطيني، ولا من مقاومته، مهما كان الإنهاك وكانت المجازر المفزعة بحق مئات وآلاف المدنيين الأبرياء، قتلا وجرحا وتقطيعا لأشلاء الأطفال والرضع، وكأنهم ينفذون بالحرف ما قاله شاهد منهم قبل يوم واحد من استئناف غارات الإبادة، فقد قالها الجنرال موشيه يعلون وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق، وحذر من دفع الجيش الإسرائيلي مجددا إلى جرائم حرب وإبادة للنساء والأطفال الرضع، ربما المتغير المضاف، أن ترامب خلع قناعه الإنساني السلامي المزيف، ونزلت أمريكا إلى ميدان الجحيم وحروبه رسميا، ومن دون أن تحقق الفارق النوعي الحاسم، فجماعة الحوثي اليمنية لن ترفع الرايات البيضاء المستسلمة لضراوة الضربات الأمريكية، وإيران المستهدفة علنا من ترامب ونتنياهو ومن أنظمة عربية، تبدو رابحة لا خاسرة فيما يجري كله، فالعدوانية الأمريكية الإسرائيلية الدموية تدعم روايتها، وتعطى مبررات مضافة لمشروعية مقاومة الهمجية المعادية، التي لن تتوقف عند ساحات فلسطين واليمن، والذاهبة باستطراد الوقائع إلى صور جحيمية واردة في كل سوريا وفي جنوب لبنان، وربما إلى صناعة حروب أهلية دموية في لبنان وسوريا، وامتداد جحيم الاحتلال والغزو الهمجي، يعطي فرصا مضافة لاشتعال بؤر مقاومة جديدة، قد لا تكون قادرة في التو على ردع صناع الجحيم، لكنها تفيد من ظروف انكشاف الحقائق في وهج النيران، واستئناف الصراع إلى مدى طويل مقبل، وبما يقطع الطرق على عقد اتفاقات إبراهيمية جديدة، ويجعل حلم الشرق الأوسط الجديد لعنة على صانعيه والراغبين فيه، فقد يكون هدم ما هو قائم ميسورا، لكن إعادة تركيبه على نحو مستقر تبدو مستحيلة، وليس في ذلك من شيء يجلب الأذى المحقق لإيران، بقدر ما يلحق الضرر بأيتام أمريكا وأرامل ترامب، حتى لو ذهبت الضربات الأمريكية المباشرة إلى إيران ذاتها، فأي تراجع من النظام الإيراني الحاكم لا يفيد ملالي طهران، بل يشعل النار تحت أقدامهم شعبيا، بينما قد لا تكون الضربات الأمريكية مهما بلغت ضراواتها وجحيميتها، قادرة على تدمير البرنامج النووي الإيراني، وهو عنوان فخر وطني عند الإيرانيين، تحملوا من أجله آلاف عقوبات الضغط الاقتصادي، على مدى أربعة عقود وتزيد، واكتسبوا علوما ومعارف صعدت بهم إلى عتبة صناعة القنابل الذرية، ووزعوا منشآتهم النووية بالعشرات على جغرافيا متباعدة شديدة التحصين، جعلت من المستحيل تدميرها جميعا، إلا في حالة واحدة، هي الانقلاب على النظام الإيراني الحاكم نفسه من الداخل، أو بغزو عسكري بري واسع للأراضي الإيرانية، وهو ما لا يبدو ترامب متحمسا لخوض حربه، وفي الذاكرة القريبة والبعيدة، ذكريات إخفاق أمريكا في كل حرب ذهبت إليها من فيتنام إلى أفغانستان .

وبالجملة، وفي مدار الحرب الأوسع التي تتسع خرائط نيرانها اليوم، فلا تبدو أفكار ترامب وخططه الهوجاء الملتبسة عن فرض سلام بالقوة صالحة في موازين اللحظة، ولا في تعقيدات المنطقة المسكونة بالأساطير، وقد جرب أن يهدد بنيران الجحيم، ودون أن يجني ثمار الردع، الذي أراده، ثم راح بعدها يشعل الجحيم فعليا، وفي انسياق كامل لرغبات نتنياهو، ومن دون ثقة كاملة في النتائج، ولا تحسب دقيق للمضاعفات، وبالذات في قضية شن الحرب المباشرة على إيران، والأخيرة لا تبدو وحيدة معزولة في حسابات الانتقال العالمي الحرجة، فقد استضافت الصين مؤخرا مؤتمرا جمعها مع روسيا وإيران عن البرنامج النووي الإيراني، وأجرت بالتوازي مناورة بحرية مشتركة مع موسكو وطهران في المياه الإيرانية، وذهاب حملة ترامب العسكرية إلى طهران، قد تصطدم مباشرة بالمصالح الصينية والروسية، وتدعم أمارات التحالف الصيني الروسي، وعلى العكس تماما من مطامح ترامب المعلنة في فصل روسيا عن الصين، بينما يسعى ترامب إلى عقد صفقة أوكرانيا مع الروس، ويواجه احتمالات ركود اقتصادي، يسعى إلى تجنبه بانفتاح أوسع على موارد الروس الطبيعية الغنية، وكل ذلك وغيره، تأخذه طهران في حسابها، وهي تواجه حرب أمريكا وإسرائيل الأوسع في الشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة