ترامب ثانية: المزيد من الإخضاع..!

علاء الدين أبو زينة

حرير- قد تختلف التفاصيل والآليات، لكنّ الجوهر الأساسي للسياسات الأميركية تجاه الشرق الأوسط يبقى هو نفسه: ضمان الهيمنة على المنطقة، والحفاظ على وجود الكيان الصهيوني وتفوقه كحارس لهذه الهيمنة. وهذا يضع فلسطين، بالضرورة، في قلب معادلة العلاقة بين الولايات المتحدة والعالم العربي وبقية الإقليم. إن فلسطين المستوطنة/ القاعدة، التي تنطلق منها العمليات الرامية إلى إخضاع الشرق الأوسط وإبقائه في أفضل وضع يخدم المصالح الأميركية.

على هذا الأساس، عكست السياسات التي انتهجها الرئيسان -القديم الجديد دونالد ترامب، والمنصرف جو بايدن- انحيازًا ثابتًا للكيان الاستعماري وعداءً صريحًا لتطلعات الفلسطينيين. وعلى الرغم من الفروقات في الأسلوب والخطاب بين إدارتيهما، فإنها مجرد تنويعات على الموقف الأميركي التاريخي الداعم للكيان، دائمًا على حساب حقوق الفلسطينيين واستقرار المنطقة بأسرها.

كانت ولاية ترامب الأولى حقبة تحويلية في العلاقات الأميركية مع الكيان، ميزها دعم وصف بأنه غير مسبوق. وقد عززت سياسات إدارته موقف الكيان وألحقت ضررًا بالغًا بتطلعات الفلسطينيين. في العام 2017، كسر ترامب عقودًا من التقاليد الأميركية عندما اعترف بالقدس عاصمة للكيان ونقل السفارة الأميركية إليها. وقد تجاهل ذلك القرار مطالب الفلسطينيين بالقدس الشرقية عاصمة لدولتهم المستقبلية، وقوبل بإدانة واسعة دوليًا.

وفي العام 2020، أعلن ترامب تفاصيل خطة سلام منحازة تماما لصالح الكيان، سمحت بضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية وقدمت للفلسطينيين “دولة” مجزأة ومشروطة، لا تقترب مجرد اقتراب من تطلعاتهم السيادية. وفي الوقت نفسه، أوقفت إدارة ترامب تمويلها لـ(الأونروا) ودعمها المالي للسلطة الفلسطينية، لتضاعف الضغط وتفاقم الأزمات الإنسانية في غزة والضفة الغربية.

وكأنما لم يكن ذلك كافيًا، عملت إدارة ترامب على عزل القضية الفلسطينية من خلال التوسط في “اتفاقيات إبراهيم” التي طبّعت العلاقات بين الكيان وعدد من الدول العربية. وعلى الرغم من وصف هذه الاتفاقيات بأنها تاريخية، فإنها أشرت على ترتيب إقليمي همّش الفلسطينيين وسعى إلى تجاهل القضية الفلسطينية. وقد احتفت قيادة الكيان -خاصة بنيامين نتنياهو- بسياسات ترامب التي أعطت دفعة للطموحات الاستراتيجية والجغرافية للكيان، وخانت الحقوق الإنسانية للفلسطينيين وتطلعاتهم الوطنية.

وكان عهد جو بايدن استمرارًا للشيء نفسه، ولو بنكهة مختلفة. وعلى الرغم من تعهده خلال حملته الانتخابية باستعادة بعض التوازن للتعامل مع الصراع في فلسطين، واصلت رئاسته نهج سياسات ترامب، بتعديلات طفيفة.

حافظ بايدن على الدعم العسكري والدبلوماسي القوي وغير المشروط للكيان، بما في ذلك تقديم 3.8 مليار دولار سنويًا كمساعدات عسكرية. وخلال حملة الإبادة الجماعية في غزة، حالت إدارته في أيار (مايو) 2021 دون صدور بيانات عن مجلس الأمن تدعو إلى وقف إطلاق النار، في اعتناق واضح للرواية الأمنية للكيان.

إذا كان ثمة اختلافات عن سياسة ترامب في عهد بايدن، فإنها كانت شكلية فقط. استأنفت إدارة بايدن تمويل (الأونروا) وقدمت مساعدات إنسانية للفلسطينيين، في افتراق عن نهج ترامب العقابي. ولكن لم تُصاحب هذه الخطوة أي مبادرات سياسية جدية لإحياء محادثات السلام أو معالجة جذور الصراع. وكرر بايدن الحديث عن دعم بلده لحل الدولتين، لكنه لم يتخذ أي خطوات عملية لتحقيق هذا الهدف. واستمر في عهدته التوسع الاستيطاني، وهدم المنازل، وبقية الإجراءات التي قوضت أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. وعلى غرار ترامب، تبنّى بايدن “اتفاقيات إبراهيم” وسعى إلى توسيع التطبيع بين الكيان ودول عربية إضافية. وعلى الرغم من تقديم ذلك كمسعى لتعزيز السلام الإقليمي، فإنه زاد من تهميش القضية الفلسطينية من دون حلها، ليصبح السلام أكثر بُعدًا فقط.

ربما بدا خطاب بايدن أكثر اعتدالًا –وكان منتقدًا لسياسات الكيان أحيانًا- لكن إدارته لم تتخذ أي إجراء لمحاسبة الكيان على انتهاكاته تجاه الفلسطينيين. بل انه لطخ إرثه إلى الأبد بتواطئه الصريح في الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، الذي منحه لقب “جو الإبادة الجماعية”.

ثم، عاد دونالد ترامب إلى المشهد مرة أخرى. وليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأنه لن يستأنف سياساته تجاه الصراع في فلسطين من حيث انتهى ولايته الأولى، وربما بصرامة أكبر. وبالبناء على سجله وتصريحاته، من غير المتوقع أن يولي ترامب أي اهتمام جدي لقضايا الفلسطينيين الذين يعتبرهم عقبة في طريق تحقيق أهدافه الاستراتيجية.

في ولايته الأولى، أعربت إدارته عن دعمها لضم أجزاء من الضفة الغربية. وقبل تنصيبه في الولاية الثانية، صرح بأن “إسرائيل” صغيرة، وبأنه سيرى كيف سيساعد في هذا الشأن. وباعتبار أنه شخص يصعب التنبؤ بتصرفاته، فإنه قد يوافق على خطوات عدوانية متطرفة لجعل الكيان أكبر.

في ولايته الأولى، أظهر ترامب استعداده لتحدي الأعراف والقوانين الدولية، كما ظهر في قراراته الأحادية مثل الاعتراف بسيادة الكيان على مرتفعات الجولان. وليس هناك ما يمنع اتخاذ ترامب خطوات إضافية في هذا الاتجاه، والتي تقوّض الإجماع الدولي –والعربي المعلن- وعلى رأسها منح الضوء الأخضر لضم الضفة الغربية، وبذلك إنهاء أي جهود دولية لإيجاد حل عادل للصراع، والتأسيس لمرحلة جديدة من الانحياز السافر.

ومن شبه المؤكد أن يسعى ترامب أيضًا إلى توسيع نطاق “اتفاقيات إبراهيم”، التي بدأها خلال ولايته الأولى، لتشمل دولًا عربية ومسلمة إضافية. والهدف هو تعزيز الهيمنة الإقليمية للكيان بالمزيد من تهميش القضية الفلسطينية، حيث تُدفع دول المنطقة إلى التطبيع من دون أي تقدم نحو تحقيق حقوق الفلسطينيين أو طموحاتهم الوطنية. وتعكس هذه السياسة رؤية تقوم على ترتيب التحالفات الإقليمية لصالح الكيان، مع كل التداعيات السلبية على القضية الفلسطينية ومستقبل السلام في المنطقة.

في وفاء للسياسة الأميركية تجاه المنطقة، لم يحد ترامب وبايدن عن المنطلق الأساسي القائم على اعتبار الشرق الأوسط منطقة نفوذ أميركي ضرورية. ولذلك، في غياب أي رد فعل من دولها، يجب الحفاظ على الكيان كمخفر متقدم دائم للإخضاع، وهو ما يعني بالضرورة إلغاء الفلسطينيين نهائيا لتثبيت المستعمرة العسكرية في مكانهم.

وبالطبع، لا يمكن أن يتوقع أحد في ولاية ترامب الثانية سوى تعمق معاناة الفلسطينيين، وتجاهل المشاعر الشعبية العربية، ومحاولة تشكيل المشهد ليعبر عن مزيد من الخضوع للهيمنة الأميركية. وفي المقابل، لا يُتوقع أي رد فعل عربي مختلف، بالقياس على التاريخ القريب.

مقالات ذات صلة