
لماذا التهافت الغربي على سوريا دون رفع العقوبات؟
مثنى عبد الله
حرير- باشرت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية فتح قنوات اتصال مباشرة مع السلطات الجديدة في سوريا، من بوابة المساعدات الإنسانية، وأعادت بعضها فتح السفارات والقنصليات التابعة لها، فقد أعلنت كل من بريطانيا والولايات المتحدة إجراء اتصالات دبلوماسية مع «هيئة تحرير الشام»، رغم أن وزيري خارجيتيهما قالا إن الهيئة لا تزال منظمة محظورة في بلديهما، لكن الاتصالات تهدف إلى تأسيس حكومة تنفيذية جامعة تمثل جميع مكونات الشعب السوري.
بدوره أعلن الاتحاد الأوروبي اعتزامه إرسال موفد إلى دمشق للتواصل مع الهيئة. كما أعلنت فرنسا عن وصول فريق من الدبلوماسيين الفرنسيين إلى دمشق، لتقييم الوضع السياسي والأمني، والاحتياجات العاجلة للسكان على المستوى الإنساني، وتمت إعادة افتتاح السفارة الفرنسية في دمشق، وقال وزير خارجيتها جان نول بارو، أمام برلمان بلاده، إن الدبلوماسيين الفرنسيين لاحظوا إشارات إيجابية من السلطة الانتقالية السورية، وإن الحياة في دمشق بدأت تعود إلى طبيعتها وأضاف (لن نعتبر كلماتهم معيارا للحكم، بل سنقيّمهم بناء على أفعالهم، مع مرور الوقت). وقد ترافق ذلك مع إعلان باريس استضافتها اجتماعا دوليا حول سوريا الشهر المقبل.
يبدو واضحا أن كل هذه الاتصالات دافعها أسباب ثلاثة، الأول هو العمل على تكريس دبلوماسية كاملة تساعد في فهم النظام السياسي الجديد. ثانيا الحصول على ضمانات بأن رفع العقوبات وتقديم المساعدات لن تخلق انقسامات في الطبقة السياسية الجديدة، كما حصل في ليبيا آنذاك حين سارع الاتحاد الأوروبي إلى الاعتراف بالمجلس الانتقالي الليبي، وتقديم مساعدات اقتصادية كبيرة، ورفع العقوبات الاقتصادية فورا عنها، ودفع مستحقات قيمتها بالمليارات، وهذا ما سبّب انقساما في الطبقة السياسية الليبية، حيث كان كل طرف يريد الاستئثار بالأموال لتعزيز نفوذه، بالتالي يعتقد الاتحاد الأوروبي أنه ساهم بطريقة غير مباشرة في تسليح وزعزعة الأمن والاستقرار في ليبيا. ثالثا يسعى الغرب إلى أن يجري التواصل مع هيئة تحرير الشام بالتنسيق مع دول الجوار والقوى الإقليمية، خاصة أن ما تم من تحركات عسكرية ودبلوماسية في الملف السوري كانت دائما في إطار التشاور والاجتماعات المتكررة بين جميع الأطراف.
لكن السؤال المهم الآن هو، هل تم تحديد موقف غربي من السلطات الجديدة في دمشق؟ ما زال الموقف الجماعي الغربي من السلطات السورية الجديدة غائبا. وربما الكثيرون اليوم يتساءلون كيف يقبل الغرب استبدال نظام ديكتاتوري بنظام يقولون عنه إنه ذو خلفية دينية متشددة ومصنّف حتى الآن على قوائم الإرهاب في أوروبا والولايات المتحدة، لكن يجب علينا هنا أن نتذكر أن المجتمع الدولي، وفي مقدمته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، كانوا قد جلسوا مع طالبان على الطاولة نفسها وتفاوضوا معها حول مستقبل أفغانستان، بالتالي هذا شيء معهود من قبل المجتمع الغربي من منطلق أن المصالح هي من تفرض البراغماتية والواقعية في التحركات السياسية والاقتصادية.
من هذا المنطلق يصبح الجلوس مع أحمد الشرع فيه اعتراف غير رسمي ولكن هو اعتراف ضمني بقبوله، من منطلق أنه هو السلطة الحاكمة على أرض الواقع في الوقت الحاضر. وهذا ما دفع الغرب أيضا للقول إن هنالك فرقا بين «هيئة تحرير الشام» و»القاعدة» و»تنظيم الدولة». كما أن بعض دوائر القرار الغربي باتوا يتحدثون عن أن «هيئة تحرير الشام» ستسعى للابتعاد أكثر فأكثر عن ما يسمونه الفكر المتطرف، وهذا مهم جدا لديهم، لأنهم يسعون إلى الاستفادة الاقتصادية من خلال عملية إعادة الإعمار في سوريا أولا.. وثانيا هناك تخوف كبير من موجات جديدة من اللاجئين السوريين إلى الاتحاد الأوروبي.. وثالثا أن الكل يستحضر ما كان قد تم من عمليات تفجير في عواصم أوروبية وهذا يبعث على التخوف.
يقينا أن هناك تقدما في التفاوض مع «هيئة تحرير الشام» حسب الرؤية الغربية، وهم يضعون شرطين أساسيين لاستمرار هذا التقدم، أولا أن يكون هناك انتقال سلمي يشمل جميع الأطراف بضمنها الطوائف الدينية والأقليات، خاصة الأكراد، الذين يسيطرون على أكبر سجن للجهاديين الأوروبيين في سوريا. وثانيا عدم التسرع في الانفتاح وضرورة الحصول على ضمانات. أما بالنسبة للموقف الأمريكي فإن الولايات المتحدة دائما كانت تنظر إلى سوريا على أنها محور استراتيجي مهم في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أنها صمتت في بداية الأحداث الأخيرة، وأن جيك سوليفان مستشار الأمن القومي قال سوف ننظر ونرى، لكنه عاد وقال، إن أحمد الشرع ليس عدوا لنا الآن. وقد يبدو وكأنه يرسل رسائل فيها التباس في ما يتعلق بسوريا، لكن الحقيقة هي أن الولايات المتحدة سارعت للاشتراك في الأحداث الأخيرة والتواصل مع سلطات دمشق الجديدة، وهدفها من ذلك تحجيم روسيا وإضعافها، من خلال حرمانها من قواعدها العسكرية في سوريا ومنها قاعدتا طرطوس وحميميم. كما أن أمن إسرائيل وضمان عدم وجود خطر عليها من الأحداث الأخيرة هو هدف أمريكي آخر، إضافة إلى أن واشنطن لديها وجود عسكري كبير في سوريا، وتتحكم بحقول النفط وحقول القمح في المنطقة، التي تسيطر عليها هناك، وعليه فإن وجهة نظرهم اليوم تقول إن حكام سوريا الجدد يسيرون على الطريق الصحيح، وإنهم يحاولون إعادة تأهيل صورتهم أمام المجتمع الدولي من خلال مواقفهم المعتدلة، خاصة حمايتهم للأقليات، لكن ماذا بشأن رفع العقوبات؟ وهل من مبرر للإبقاء على عقوبات كانت مفروضة على النظام السابق؟
طبعا الأوروبيون يبررون عدم الرفع الفوري للعقوبات بالقول، إننا ننتظر أن يكون هناك وضوح أكبر من القيادة السياسية الجديدة في دمشق، وإن الإشارات التي سمعوها ما زالت غير كافية، لكن الحقيقة هي أن الغرب يريد جعلها سيفا مُسلّطا على رقاب الحكام الجدد من أجل استنزاف مواقف أكبر لمصالحهم، حتى إن المُكلفة بالشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاديا كالاس، اشترطت خروج روسيا بالكامل من سوريا كي تتعاون أوروبا مع القيادة الجديدة، لذلك يظهر جليا أن الديناميكية التي يتحرك بها الغرب في هذا الجانب أقل بكثير من الديناميكية التي تتحرك بها السلطات الجديدة في دمشق، في حين أن هناك حاجة مُلحة إلى المساعدات والمواد الغذائية والأدوية، علما أن الولايات المتحدة كانت قد أفقرت سوريا أصلا قبل ذلك، عبر التحكّم بالمنطقة التي فيها النفط والقمح. والمفارقة العجيبة هي أن روسيا التي حمت النظام السابق وساهمت بقتل مئات آلاف من السوريين بأسلحتها، هي من تدعو اليوم إلى رفع العقوبات عن الشعب السوري بسرعة بينما يتلكأ الغرب.
إن انحسار النفوذ الروسي وانتهاء النفوذ الإيراني في سوريا الجديدة، هما في الحسابات السياسية يشكلان أكبر فرصة تاريخية أمام الغرب لتحسين صورته، من خلال رفع العقوبات وإنهاء معاناة الشعب فيها.