عندما نُزايِدُ نحن أنفسُنا على دمائنا
أسامة أبو ارشيد
حرير- يمكن تفهّم ذلك الخلاف المحتدم في أوساط كثيرين من العرب بشأن إيران وحزب الله، واستتباعاً بعض الفصائل الشيعية الأخرى في الإقليم، كالحوثيين في اليمن، بين من يضعهم في محور المقاومة ضد إسرائيل وحلفائها الغربيين ومن يرى فيهم متورّطين في سفك دماء عربٍ كثيرين. أيضاً، يمكن تفهم ذلك النقاش الدائر بشأن من يمثل تهديداً استراتيجياً أكبر على العرب، إسرائيل وحلفاؤها الغربيون، أم إيران وأذرعها في الإقليم. هذا لا يعني اتفاق صاحب هذه السطور مع من يضعون إيران وأذرعها تهديداً أخطر علينا عربياً من إسرائيل، من دون التقليل من شأن معطى التهديد بحد ذاته، فالوقائع تُثبته، لكن الأمر فيه تعقيد كثير، من ذلك أن بعض الأنظمة العربية ليست فقط عاجزة عن اجتراح مشروع جمعيٍّ عربي أمام إيران، بل إنهم يضعون أنفسهم مباشرةً ومن دون مواربة في المحور الأميركي – الإسرائيلي. لكن ما لا يُفهم ولا يُقبل أبداً أن يتحوّل خلاف في المقاربات بشأن مصادر التهديد والموقف ممن يفتكون بنا نحن العرب أو ببعض أجزائنا إلى مزايدات رخيصة على أي من دمائنا أكثر حرمة، دماء الفلسطينيين، وتحديداً في قطاع غزة، أم السوريين، أم اللبنانيين، واستتباعاً العراقيين واليمنيين؟ أيضاً، من العيب والعار أن يلجأ بعض بيننا في سياق المزايدات إلى توفير أعذار عن إجرام إيران وأذرعها ضد بعض العرب بذريعة نصرتهم للمقاومة الفلسطينية ومعاداة إسرائيل. ينطبق الحكم نفسه على من يتباهون بجرائم إسرائيل ضد لبنان ويظهرون الشماتة في عدوانها الوحشي عليه نكاية بإيران وحزب الله، وكأن إسرائيل بطل نبيل يسعى إلى إنقاذهم من أنياب الضباع الإيرانية.
لنكن واضحين منذ البداية. مهما فعلت إيران وحزب الله تحديداً في نصرة الفلسطينيين فذلك لن يطهرهما أبداً من الجرائم التي يرتكبونها بحق الشعب السوري. ولن تمحو نصرة دماء المظلومين في فلسطين خزي سفكها في سورية. لكن، إدانة مجرم في مكان أو أماكن عدة لا ينبغي أبداً أن يتحوّل إلى تهليل وتصفيق للعدو الاستراتيجي الجمعيِّ للأمة العربية، وهو بدون مواربة ولا رتوش: إسرائيل. ذلك سقوط أخلاقي، وهو فوق ذلك حماقة استراتيجية، إذ لا تُهاجم إسرائيل حزب الله وإيران انتصاراً لنا نحن العرب، أو انتقاماً لدماء المظلومين في سورية والعراق واليمن، بل تفعل ذلك من أجل مصالحها أولاً وأخيراً، في مسعىً إلى فرض هيمنتها على الإقليم، وهي الهيمنة التي لا تقوم إلا على أشلاء العرب جميعاً، وليس الفلسطينيين وحدهم. وحين تنجح إسرائيل في تحييد إيران وحزب الله أو إضعاف قدراتهما، فإن نجاحها هذا يكون على جبهتها. أما ما يقترفانه بحقّ شعوب عربية أخرى فذلك أمرٌ لا تمانع إسرائيل فيه، بل إنه يرضيها ويخدم أهدافها في تحقيق استنزاف عربي- عربي، وإسلامي- عربي.
لا تزعم هذه المقالة مثاليةً واهمة. مهما تسلح بعضُنا بما نحسبه عقلانية واتزاناً ومراعاة للمناطق الرمادية في تكوين الأحكام، فإن هذا لن يشفي غليل الضحايا المباشرين أو المرتبطين بهم، سواء على جبهة إسرائيل وحلفائها أم إيران ومحورها. أيضاً، مهما نبّهنا إلى ضرورة تجنّب إظهار الشماتة، وتحديداً في حالة حزب الله، أمام الضربات التي تلقّاها من إسرائيل فإنه لا يتوقع من عوام الناس استيعاب أن نجاحات إسرائيل هي إعادة تعريف لميزان القوى لصالحها ضدنا جميعاً، وهي في حال ليست نصرةً لأحد غير مشروعها الذي لا يزدهر إلا على أنقاضنا. مشكلتنا الكبرى هي في نخبٍ تُسَعِّرُ نيران الخلاف البينيِّ العربي، فنكون نحن أول من يحترق بلهيبها. إنهم يجعلون من الشماتة والحقد، لا المعطيات والحقائق، ولا حتى المآلات، أدوات التحليل التي يوظفونها. لا يتورّع بعض تلك النخب عن السعي إلى تحقيق ما قد تعجز إسرائيل وإيران عن تحقيقه، وهو تمزيق الجسد العربي وجعل أجزائه متصارعة بدل أن تكون متعاضدة. الأدهى أن بعض تلك النخب وجدوا في الشعبويات السفيهة والعنتريات البليدة مصادر شُهرة إضافية، وهم لم يكتفوا في الانخراط في مزايداتٍ تافهةٍ حول أي دمائنا محرّمة أو أكثر حرمة، بل وصل بهم الانحدار والتردّي إلى تبنّي أحد المحورين، الإسرائيلي أو الإيراني، معلناً تأييده كل ما يفعلانه، ليس ضد بعضهما بعضاً فحسب، بل حتى ضدنا نحن العرب.
في هذا السياق، لا يملُّ بعضهم من تكرار الدعاء: “اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين”. لا أريد هنا أن أنقض الدعاء من أساسه. لكن، منطق الدعاء هنا لا يتحرّك في فراغ، فأحياناً يكون اصطدام الظالمين بالظالمين مقدّمة لانتصار محور من بينهم على الآخرين، وتكون النتيجة غياب التوازنات الدولية وهيمنة طرفٍ واحد غاشم متسلط. وإذا ترافق ذلك مع غياب محور ذاتيٍّ يتأسّس بشكل مواز فإننا لا محالة سنكون نهباً للمنتصر الجديد. أم هل يا ترى نسينا يوم أن انهار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي وفرح كثيرون منا بذلك وصفّقوا لما عدّوه نصراً مبيناً على الشيوعية في معقلها الحصين؟ ماذا كانت النتيجة؟ لم يترافق ذلك مع نشوء محور عربي أو إسلامي. واستفردت الولايات المتحدة بالعالم وبنا، وعملت على إعادة تشكيل منطقتنا، ونصرت إسرائيل علينا، ودعمت أنظمة عربية متخلفة وفاشيّة ضد شعوبها، في حين ضاقت هوامش المناورة التي كانت أمامنا في حقبة الحرب الباردة بين معسكري حلفي الناتو ووارسو. واليوم نعيد تكرار الخطأ نفسه. نزايد على بعضنا بعضاً في حُرمة دمائنا، وتتصدّر نخب شعبوية مهمة إضرام النيران في حقلنا وتسعير نيران لهبها علينا، وبعد ذلك يسأل بعضُنا أين الخلل ولماذا لا تقوم لنا قائمة؟