
نتنياهو… المنعطف الأخير للجنون السياسي
نور الدين ثنيو
حرير- الذي أدخل رئيس وزراء الكيان الصهيوني إلى مزيد من التصعيد العسكري هو غياب النتائج السياسية، والحصار القضائي الداخلي والدولي الذي يعاني منه. فقد أعطى الأمر بشن هجوم جوي كاسح رهيب على الضاحية الجنوبية للبنان، قبل مغادرته إسرائيل متجها إلى مدينة نيويورك، حيث يلقي خطابه السنوي في مقر جمعية الأمم يوم الجمعة 27 سبتمبر/ أيلول الماضي. مثل هذا التصرف الجنوني يكشف، من جملة ما يكشف، حالة من الجنون ألمت بالسياسة الإسرائيلية المتطرفة التي لم تعد السياسة، المتعارف عليها في العلاقات الدولية، بل هي جنون لأنها تقتصر على الفعل العسكري الذي يلح بإصرار وعناد على أن يتحول إلى معنى سياسي، وهذا هو ذروة الفساد المطلق، عندما يراد للسياسة أن تكون فعلا عسكريا محضا، لا يعرف أفقا ولا انفراجا ولا سِلْما.. وتلك هي في التحليل الأخير والمطاف النهائي الصهيونية، منذ أن أرست وجودها غير الشرعي في منطقة الشرق الأوسط بسياستها العدوانية الاستيطانية.
الهجوم الجنوني على الضاحية الجنوبية بداية من يوم الجمعة الماضي هو تصرف يشرح السياسة الجنونية لنتنياهو. فقد قرر الحرب الشاملة على لبنان، وهو قرار عسكري ليلقى نتيجته العكسية تماما فور وصوله إلى المنصة الأممية، ويلقي فيها خطابه الخائب، بعدما غادت الوفود مقاعدها رافضة الاستماع إلى الهذيان السياسي، بينما الذين استمعوا إلى الخطاب في بقية كل العالم لم يدركوا من هذا الخطاب الا عبارات عبثية، غير معقولة، لا تتسم بأي منطق ولا ما يمكن فهمها، نوع من الهذيان السادر الذي يكشف عن أن صاحبه مجنون فعلا. فعندما يكون رئيس وزراء الكيان العبري يُنشّط السياسة بالفعل الحربي والعسكري العدواني، فهو يبحث عن مزيد من الجنون لإغراق العالم كله في عاصفة عارمة من الدمار المنفلت، لأن أمر الحرب الشاملة على لبنان هو تعبير منه لمحاولة رفع رصيد التأييد للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية لشهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
ربط الصلة بين قرار الحرب على لبنان وإمكانية زيادة رصيد المترشح دونالد ترامب هو ربط الصلة بين أمريكا ووكيلها الحربي في منطقة الشرق الأوسط، وبتعبير آخر يفيد المعنى ذاته، أن أمر التصعيد يعني، من جملة ما يعني، تهيئة الأجواء التي تساعد على مزيد من الجنون والعنف السياسي على ما سوف يخلقه الرئيس الأمريكي السابق، الذي يتوجس منه كل العالم تقريبا، بعد تصرفاته الرعناء وطيشه الدبلوماسي، ليواصل عطاءاته غير المحدودة لإسرائيل، مثلما فعل في نقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس والتَّنَصل من معاهدة وقف التجارب النووية مع إيران، والسعي الحثيث إلى ابتزاز المال العربي، ناهيك عن خروجه السافر من كل الاتفاقيات والمعاهدات والالتزامات الدولية، التي لا يراها إلا بالقدر الذي تحقق مصالحه الشخصية قبل المؤسساتية. المقارنة هنا بين الوكيل الإسرائيلي والفاعل الأمريكي الأصلي، واجبة وشرعية جدّا، لأن الجنون السياسي يحتاج إلى جنون سياسي آخر يناصره ويؤازره والا ضاع الوكيل، وهذا ما يحدث حقيقة في تداعيات حروب إسرائيل على منطقة الشرق الأوسط بكاملها. والحرب الأخيرة على لبنان هي آخر فصول غير منتهية لتصرفات مجنونة يقوم بها الكيان العبري، أو اليهودي على ما يرى اليميني المتطرف نتنياهو نفسه. عندما تصير السياسة مجنونة على ما يصنع الإسرائيلي الصهيوني حالة حربية متوالية، فإنها تصبح ضد صاحبها الذي يحاصره القضاء في «بلاده» والقضاء الدولي في الخارج وليس له إلا أمريكا تؤويه وتحميه لأنهما معا خارج المنظومة القانونية والأخلاق والأعراف. فانفراد أمريكا وحدها بالاعتراض على وقف العدوان في مجلس الأمن، وخروج ممثلي العالم من قاعة جمعية الأمم، ورفضهم سماع خطاب رئيس دولة الاحتلال، فيه ما يقدم الواقعة المادية، قبل السياسية على أن إسرائيل دولة إرهابية، بالمعنى المطلق، وأن العرب هم من يقاومونها حق المقاومة. لا وجود لإسرائيل الا بالحرب، ولا يوجد العرب إلا بالمقاومة. وعلى الحكماء أن يحكموا.
الحرب المجنونة التي شنها اليمين المتطرف على غزة، ثم على لبنان هي المنعطف الأخير الذي وصلت اليها السياسة في إسرائيل، عندما تشعر بقرب النهاية وحالة من الحدس بزوال إسرائيل. فمن تداعيات طوفان الأقصى هو الحديث داخل وخارج إسرائيل عن هاجس زوال إسرائيل، ليس بالمعنى الذي يتواكل إلى قوة خارقة تعصف بها انتقاما من أفعالها الفاشية، وتقمصها الذهنية النازية، التي تضطلع بدورها الإبادي الساحق والماحق، لا بل الشعور الفعلي الذي ينتاب عصابة نتنياهو نفسه عندما شاهد الدليل القاطع والقوي في جمعية الأمم المتحدة حال مغادرة الوفود، ورفضها الاستماع إلى خطابه. قد لا يعنيه هذا الشاهد الذي يؤكد أنه غير موجود ومنبوذ وغير محتفى أو مرحب به، لكنه في المنعطف الأخير يؤكد بداية زوال إسرائيل لأن مقوماتها الداخلية، تلاشت وترهلت في السنوات الأخيرة عندما عجزت السلطة العبرية عن تشكيل حكومتها إلى أن قذفت باليمين المتطرف كآخر الحلول الشريرة، والوصول إلى ما هو عليه الوضع الحالي في كل المنطقة والعالم بأسره.
المنعطف الأخير للسياسية الإسرائيلية المتطرفة هو أن جنونها متأتِ من العبث والعربدة والتخبط الذي ينم في التحليل النفسي والاجتماعي عن غياب الأفق الهادي إلى وضع شرعي آمن، بعد نفاد مسار السلام واليوم مسار الحرب. نعم، إسرائيل جربت الحرب ثم السلم، وهي تعود إلى الحرب في زمن يأبى الحرب ولم تعد تقوى عليها حتى الأمم والدول الأصيلة ذات الشرعية التاريخية والسياسية، فالوكيل السياسي في منطقة الشرق الأوسط يعبث وحده في الساحة، بعد أن أخفقت عمدا القوى الغربية من لجمه وصده عن فعله المنكر. فقبل الحديث عن الأضرار التي منيت بها الشعوب العربية عبر تاريخها الحديث والمعاصر، يجب ألا يغيب عن الوعي العالمي كله أن مصير العرب والمسلمين هو الأقدر على التصدي للسياسة المجنونة للوكيل الغربي في المنطقة العربية. فقد انفلت نتنياهو من عقال الغرب وانفرد برهائنه من اليهود والعرب، وفضّل انتحارا حقيقيا، يأخذ معه كل ما يمكن أن يأخذه ويسبب كل ما يستطيع أن يسببه، كأفضل إبداع جنوني تتفتق به العقلية اليهودية في آخر مراحلها الصهيونية. ومن ثم يقدم خدمة علمية وتاريخية لإعادة قراءة تاريخ اليهود وشرحه وفق تاريخ الأفعال الإجرامية، والتصرفات غير الشرعية، لأن التاريخ المعاصر بما ينطوي عليه من زمن محايث لأحداثه ووقائعه يظهر الورم السرطاني الفظيع، الذي سكت عنه العالم وتألم منه العرب والمسلمون، الذين كان لهم فضل مجابهة النازية الجديدة في الوكيل الإسرائيلي الذي أطال الوضع الاستعماري وتقمص دور الاحتلال بقوته الحربية.
المعادلة التي ينفذها الوكيل الإسرائيلي في المنطقة العربية، لها وجه إجرامي حقيقي وليس مجازيا، عجز العالم كله عن ردعه ومواجهته، ووجه آخر عربي يقاومه بكل ما أوتي من قدرة على الصبر والتجلد والاستشهاد وتحمل الضيم والحيف من قبل أعتى قوة غير أصيلة ذاهبة إلى زوال، ويكون فضل العرب أنهم واجهوا بنجاح كبير أكبر بؤرة سرطانية في العالم، ومن ثم ينفرج العالم على أفق إنساني جديد عنوانه الكبير هزيمة الصهيونية في دنيا الواقع والفكر.



