من راشيل إلى عائشة نور: شهداء التضامن مع فلسطين
سليمان المعمري ... كاتب عُماني
راشيل كوري .
سليمان المعمري
وإذن، عائشة نور لم يكن لها من اسمها المركب إلا الجزء الثاني؛ النور الذي يسطع من وجوه الشهد.اء. بيولوجيًّا لم تعد عائشةً الآن، منذ أن صوّب قنّاص إ.سرائيلي رصاصة على رأسها يوم الجمعة، لكنها ستظل مع ذلك عائشة في وجدان الفلسطينيين الذين ضحت بحياتها من أجلهم، وفي قلوب كل الضمائر الحرة التي لا ترضى بالظلم والطغيان، مثلما عاشت قبلها راشيل كوري، وتوم هرندل، وعشرات الشهد.اء المتضامنين مع القضية الفلسطينية. ولا يهم الآن أن نقول إن جنسية عائشة نور أمريكية أم تركية، ما دامت ردة فعل العالم كله على قتلها بدمٍ بارد، هي واحدة تقريبا؛ التجاهل التام، وفي أحسن الأحوال التعبير عن الأسف والقلق والانزعاج مثلما عبّر المسؤولون الأمريكيين في تعقيبهم على هذه الجريمة الإ.سر.ائيلية في حق مواطِنتِهم، وكأنهم يتحدثون عن قطة رأوها بالصدفة مدهوسة في الشارع.
لكن “عائشة نور إزجي إيجي” ليست قطة، بل إنسانة تحمل في داخلها كل معاني النبل والإنسانية. يكفي أنها تركتْ بلدها وأهلها لتتضامن مع شعب محتلّ منذ ستة وسبعين عاما. استُشهِدتْ خلال مشاركتها في مسيرة احتجاجية في نابلس في الضفة الغر.بية المحتلة وهي في عمر الزهور؛ إذ لم يتجاوز عمرها ستة وعشرين عاما. وكانت قد وصلت إلى الضفة الغربية قبل أيام قليلة فقط من استشهادها؛ تحديدًا يوم الثلاثاء الماضي. جاءت متطوعة في حركة التضامن الدولية التي تُعرف اختصارًا (ISM)، لحماية المزارعين الفلسطينيين الذين يواجهون يوميًّا اعتداءات المستوطنين والجنود الإ.سرائيليين.
وما دمتُ ذكرتُ حركة الـ(ISM) فيجدر بي أن أُذَكِّر أن عائشة نور هي شهيدتُها الثالثة منذ تأسيسها عام 2001 لدعم المقاومة الشعبية الفلسطينية ضد الاحتلال الإ.سرائيلي الغاصب، وتركز هذه الحركة على التضامن الدولي والمقاومة السلمية كأدوات للتغيير، من خلال تنظيم احتجاجات سلمية، ومرافقة المتضامِنين للفلسطينيين في حياتهم اليومية، والوقوف كدروع بشرية لحمايتهم من الاعتداءات، كما فعلتْ عائشة نور بمشاركتها في حملة “فزعة” لدعم وحماية المزارِعين الف.لسطينيين، ولَكَم نجحتْ ISM في تسليط الضوء على الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان في فلسطين، وجَذبتْ انتباه الإعلام الدولي لتلك الانتهاكات.
مَنْ يَنسى مثلًا راشيل كوري؛ أولى شهيدات حركة التضامن الدولية، وإحدى أبرز الناشطات فيها. كانت راشيل طالبة في الجامعة عندما انضمت إلى ISM لدعم المقاومة السلمية الفلسطينية. في مارس من عام 2003، توجهت راشيل، الشابة البالغة من العمر أربعًا وعشرين سنة، إلى قطاع غزة بهدف المشاركة في جهود الحماية المدنية للمنازل الفلسطينية التي كانت تتعرض للهدم اليومي من قبل جيش الاحتلال. في السادس عشر من مارس 2003 تحديدًا، وقفت راشيل كوري أمام جرافة إسرائيلية كبيرة كانت تحاول هدم منزل مواطن فلسطيني في مدينة رفح. ورغم ارتدائها سترة برتقالية واضحة للعيان، إلا أن الجرافة تعمّدتْ دهسها مرتين، مما أدى إلى إصابتها بجروح قاتلة واستشهادها على الفور. ما يهمني أن أذكر في هذه العجالة ما قالته راشيل في رسالتِها الأخيرة إلى أهلها عن معاناة الفلسطينيين: ” أعتقد أن أي عمل أكاديمي، أو أي قراءة، أو أي مشاركة في مؤتمرات، أو مشاهدة أفلام وثائقية، أو سماع قصص وروايات، لم تكن لتسمح لي بإدراك الواقع هنا، ولا يمكن تخيل ذلك إذا لم تشاهده بنفسك، وحتى بعد ذلك تفكر طوال الوقت بما إذا كانت تجربتك تعبر عن واقع حقيقي”.
أثار ا.ستشهاد راشيل في ذلك الوقت صدمة عالمية، وأصبحت رمزًا للتضامن الدولي مع القضية الفلسطينية. وكعادته؛ أجرى الجيش الإسرائيلي تحقيقًا داخليًّا صوريًّا، ذرًّا للرماد في العيون، ادعى فيه أن سائق الجرافة لم يستطع رؤيتها، على النقيض مما شهد به الصحفيون الأجانب الذي كانوا يغطّون عملية هدم منازل الفلسطينيين في اليوم ذاته، وتوصل “التحقيق” في نهايته – وكما كان متوقّعًا – إلى تبرئة ساحة الجندي الذي قتلها، معتبرًا أن الحادث كان “غير مقصود”!
في الفترة نفسها التي استُشْهِد.تْ فيها راشيل كان أحدَ الموجودين في غزة متضامِنٌ بريطانيٌّ شاب اسمه توم هرندل، كان هو الآخر عضوًا في حركة التضامن الدولية (ISM). عبر هرندل عن استيائه من تغطية الإعلام العالمي لاستشهاد راشيل، وكتب في مذكراته: “أتساءل كم من الناس سمع عن مقتل راشيل كوري، وكم منهم عَدَّ ذلك مجرد حادثة أخرى، مجرد رقم آخر”! في 11 أبريل 2003، وأثناء وجوده مع متضامنين آخرين من حركة ISM، لاحظ هرندل ثلاثة أطفال فلسطينيين في مرمى إطلاق النار من قبل قناصة إسرائيليين، فهبّ من فوره محاوِلًا إنقاذهم، وخلال احتضانِه طفلةً فلسطينية وهو يركض، أطلق قناص إ.سرا.ئيلي عليه رصاصة في الرأس، (تمامًا كما سيحدث بعد واحد وعشرين عامًا مع عائشة نور)، رغم أن هرندل كان مدنيًّا يرتدي – كما راشيل – سترة برتقالية تشير إلى أنه متطوع دولي غير مسلح. وبسبب إصابته البليغة، دخل توم هرندل في غيبوبة، نُقِل على إثرها إلى أحد مستشفيات لندن، إلا أنه ظل في غيبوبته تلك أكثر من تسعة أشهر، حتى توفاه الله في 13 يناير 2004، عن عمر ناهز اثنين وعشرين عاما.
استشهاد هرندل أثار أيضًا غضبًا دوليًّا، ورغم محاولات إسرائيل نفي المسؤولية في البداية، إلا أن ضغط عائلة هرندل ومنظمات حقوق الإنسان أدى إلى فتح تحقيق في الجريمة، وحُكِم على الجندي الإسرائيلي بالسجن لمدة أحد عشر عامًا ونصف، قضى منها في الحبس ستّ سنوات ونصف فقط بسبب “حسن السلوك”!
واقع الحال يؤكد إذن أنه رغم التضحيات الكبيرة التي يبذلها المتضامنون مع قضية فلسطين العادلة إلا أن التضامن مع الشعوب المظلومة لن يتوقف.
واستشهاد عائشة نور يوم الجمعة الماضي، مثله مثل استشهاد راشيل كوري وتوم هرندل قبل أكثر من عشرين عاما، يذكرنا بأن النضال من أجل الحرية والعدالة لغةٌ عالمية، يتحدثها كل ضمير حرّ، ويفقهها كل إنسان نبيل، وأن رفض الظلم هو فطرة متأصلة داخل الإنسان لا يُمكن كبتُها أبدا.
– جريدة عُمان. عدد الأحد 8 سبتمبر 2024م: