ماذا وراء إدانة المقاومة؟

سهيل كيوان

حرير- كانت هذه الأصوات خافتة في البداية، ولكنّها بدأت ترتفع وتزداد طرديّا مع اشتداد مجازر الاحتلال وحشية، كانت تُكتب بحذر، ولكنها تحوّلت إلى حملة أو جزء منها تحول إلى حملة موجّهة، تخلص إلى إدانة المقاومة في قطاع غزة، وهي مقولة تحكي، لو لم تقم المقاومة، وعلى رأسها حماس، بما قامت به في السّابع من أكتوبر 2023 لما جرى لقطاع غزة ما جرى له من دمار وخراب، ولما وصلنا الى حرب إبادة لم يحدث مثلها في تاريخ الصراع منذ عام النكبة 1948.

يستشهد البعض بمقولة للسَّيد حسن نصر الله بعد حرب عام 2006، بأنّه لو كان يعرف ردّ فعل إسرائيل بالحجم الذي حدث فيه، لما وافق على اختطاف الجنديين اللذين كانا ذريعة لانطلاق شرارة الحرب في ذلك العام، علما أن اختطاف الجنديين جاء ردّا على اختطاف إسرائيل للبنانيين من جماعة حزب الله، وكان هدف الاختطاف هو تبادل الأسرى الذي تمّ بالفعل بعد الحرب. حرب 2006 أسفرت عن دمار هائل في جنوبي بيروت وفي لبنان عموما، وأسفرت عن استشهاد أكثر من 1200 لبناني وجرح بضعة آلاف.

التساؤلات منطقية جداً، ويجب أن تُطرح دائما، وفي كل مرحلة من مراحل الصراع، وإعادة تقييم الوضع، هل كانت حسابات المقاومة صحيحة، عندما نفّذت هجومها؟ هل وقعت أخطاء في التنفيذ، مثل أسر مدنيين، وما الذي حقّقته المقاومة من هجومها؟ وهل يجب على المقاومة القبول بإطلاق سراح الأسرى بكل ثمن، ولو كان وقف إطلاق نار لبضعة أسابيع فقط، ثم تستأنف إسرائيل حربها بلا رادع، على الأقل لضمان وصول المساعدات إلى المناطق المنكوبة؟

كلها تساؤلات مشروعة، خصوصا إذا جاءت من أولئك الواقعين في بركة القار المغلي، الذين فقدوا الكثير، وما زالوا يعيشون تحت وطأة حرب الإبادة والتهجير.

من حق هؤلاء أن يتساءلوا! ولكن هناك من يحملون المسؤولية للمقاومة، ويقللون من إدانة الاحتلال، بدعوى أن المقاومة هي التي جلبت على الشّعب الفلسطيني هذه الكارثة، وهي تذكّر بمقولة إسرائيلية ما زالت تردّدها منذ تأسيسها، بأن الزعماء العرب، بمن فيهم الحاج أمين الحسيني قائد الفلسطينيين، هم الذين جلبوا النكبة لشعبهم، عندما رفضوا قرار التقسيم عام 1947، وأعلنوا الحرب على إسرائيل الوليدة الحديثة الطّفلة، التي كانت ما زالت في الحفاظات. هذه قاعدة إسرائيلية قديمة دأبت من خلالها على تحميل الضحية وزر ما ترتكبه من جرائم، لأنّه في الواقع ليس لديها سوى هذه الذريعة بأن تحمّل الضحية المسؤولية. حسب هذا المنطق كان على الفلسطينيين والعرب أن يرحّبوا بالضيوف القادمين من كلِّ أرجاء الأرض، وأن يتقبلوهم وهم يقاسمونهم وطنهم، وأن يصمتوا دون أي رد فعل سوى الترحيب بالاحتلال، ولهذا يتحمّلون مسؤولية احتلال جيش إسرائيل لجزء آخر من فلسطين، ويتحمّل العرب المسؤولية عن طرد مئات آلاف الفلسطينيين من وطنهم، لأنّهم اتخذوا قراراً بمحاربة إسرائيل الوليدة الجديدة، وعدم الاعتراف بها، ثم صار العرب يتحمّلون مسؤولية اللاجئين في الدول العربية، لأنهم لم يعملوا على حلّ المشكلة باستيعاب الفلسطينيين في دولهم، وما زالوا يعاملونهم كلاجئين بدلا من استيعابهم، وبهذا يتحمّل العرب المسؤولية، وليس من طردهم من وطنهم منذ المرّة الأولى.

بهذا المنطق تتحمل منظمة التحرير مسؤولية «أيلول الأسود» عام 1970 في الأردن، لأنّها هاجمت إسرائيل من أراضي الأغوار الأردنية، وهذا أدى إلى توتّرات، فإسرائيل لم تسمح باستمرار الهجمات من الأغوار، وضغطت على الملك حسين، طبعا مع ضغوطات غربية، وبذريعة أن الفلسطينيين يعربدون في الأردن، اشتعلت المواجهة التي أدّت إلى مقتل الآلاف وطرد المنظمة التي وجدت ضالتها في بيروت الغربية. في لبنان ما لبثت أن تورّطت، في الحرب الأهلية اللبنانية، أو أن جهات قصدت توريطها عندما قتلت عشرات الفلسطينيين العُزّل، وقد وقعت خلالها مجزة تل الزعتر ومحو المخيّم. هل كان عليهم أن يعيشوا في لبنان مما تقدّمه الوكالة، والعمل من خلال منظمات دولية والمطالبة بحق العودة وبالدّولة الفلسطينية من غير أي طلقة رصاص واحدة! ثم جاء حصار بيروت، علما أن عمليات «م.ت.ف»، كانت محدودة جداً قياساً بهجمة السابع من أكتوبر 2023، إلا أنّ إسرائيل بقيادة بيغين وشارون اتخذت من إطلاق النار على شلومو أرجوب سفير إسرائيل في لندن، ذريعة لشن حرب واسعة، وحصار عاصمة عربية لأكثر من شهرين، وقطع الماء والغذاء عنها، ثم إرغام المقاتلين الفلسطينيين بوساطات دولية وعربية على الخروج من لبنان، وتوزيعهم على بلدان عربية مضيفة! وهذا لم ينقذ المدنيين في المخيّمات، حيث جرت مجازر صبرا وشاتيلا. كان يمكن لمجزرة صبرا وشاتيلا أن لا تحدث، لولا رغبة ياسر عرفات ورفاقه في المقاومة واستخدام السّلاح ضد إسرائيل، لو اكتفى عرفات بحملة توقيعات دولية لإقامة دولة فلسطينية، لما حوصر وطرد من بيروت، فالقوى غير متكافئة، وهذا يعرفه أي طفلٍ في المنطقة العربية، فلماذا غامر عرفات ورفع السلاح في وجه إسرائيل المدعومة من الغرب وأمريكا، وبعد تحييد مصر من الصراع!

لو أنّ الفلسطينيين لم ينتفضوا عام 1987 ولم يستعملوا الكثير من الحجارة في شوارع قطاع غزة والضفة الغربية ضد جيش الاحتلال، لما قُتل 1550 فلسطينياً، ولما جُرح حوالي 70 ألفاً، ولما سجن الآلاف، ولكنها أوصلت إلى أوسلو! ولو أنهم لم يقبلوا باتفاقات أوسلو لقيل أنتم الذين رفضتم الدولة؟ ولكنهم قبلوا بأوسلو، وها هي النتيجة. لقد قتل منذ بداية هذه الحرب في الضفة الغربية حوالي 500 مواطن فلسطيني، واعتقل حوالي 9000 وهذا العدد ما كان ليستشهد، ولا أن يعتقل لو لم يهبّ هؤلاء للدفاع عن بيوتهم وأراضيهم وللتضامن مع قطاع غزة في شعور بأنها وحدة مصير. المنطق الذي يريده هؤلاء بحسن نيّة، هو عدم منح الاحتلال فرصة أو ذريعة للبطش بك وبشعبك، ما دمت غير قادر ولا أنت قريب من التكافؤ بالسّلاح والعتاد وغيره مع الاحتلال. من الملاحظ أن هؤلاء أنفسهم يمجّدون الثّورة الفيتنامية ضد الأمريكيين، علما أن عدد ضحايا فيتنام وصل إلى أكثر من ثلاثة ملايين إنسان، إلى جانب دمار واسع، إذ أبيدت قرى كاملة عن بكرة أبيها، في الغارات الأمريكية. كذلك يمجّدون ثورة المليون شهيد في الجزائر.

المنطق الذي يحمّل الضحية عبء جرائم الاحتلال لا يخدم سوى الاحتلال، ويشجعه على زيادة بطشه، إذ يرى بهذا ثمرة عدوانه وبداية انتصاره فيزيد من وحشيته وهمجيته. من يده في النار ليس كمن يده في الماء، ومن هُدم بيته وقُتل أبناء أسرته، وجاع ويسكن على أنقاض أو في خيمة، ليس كمن يجلس في مقهى مكيَّف مرتاحاً ويكتب مقالة ويدلي برأيه. لا مزاودة على أحد، ويمكن القول إنّ أخطاء كبيرة وقعت في مسيرة حركة التحرّر الفلسطينية من جميع التنظيمات، ومنذ تأسيسها، وقد تكون هنالك قرارات خاطئة، كلّفت الفلسطينيين الكثير من الضحايا والأموال، من قيادات سابقة وحالية ومستقبلية، لكن يجب الحذر من قلب الحقائق وتزييفها، بوضع الضحية في موقع المسؤول عن حرب إبادة يمارسها الاحتلال علانية، وباستهتار تام حتى في القوانين والمؤسسات الدولية.

هنالك من يصرخون من شدّة الألم لما جرى ويجري، وهؤلاء يمكن تفهّمهم، ولا حقّ لأحد بالمزاودة عليهم، وهنالك من رأوا بأن حماس وقَعت في الفخ، وينتظرون سحقَها كي يركبوا «توصيلة» مجّانية برعاية أمريكية عربية وإسرائيلية لإدارة القطاع كبديل عن نظام حماس.

مقالات ذات صلة