بعد الحرب

موفق ملكاوي

حرير- حين تضع الحرب أوزارها، بعد أن يكون نزفنا فاض على بحر غزة واختلط بمياهه الحزينة، وعندما يتعانق المقاومون الذين كتب لهم البقاء، ويهنئون رفاقهم بالسلامة، رافعين أكفهم بالدعاء لمن ساروا على درب الشهادة، وبعد أن تكون النار قد بدأت تبرد تدريجيا في صدور الأمهات الفاقدات لأبنائهن، ليخرجن زفرات حرى في وجه العالم الذي راقب بلا حياد مذبحة القرن، وبعد أن يتيه الكاوبوي الأميركي سكرا بالدم الفلسطيني، ويشرب نخب النصر المزيف، ليفرد الخرائط الجديدة فوق طاولة مشبعة بالدماء، عندها، سوف تخلع واشنطن وجهها الحالي، وترتدي وجه الواعظ المعتاد الذي نعرفه جميعنا.

سوف تضم العالم من جديد تحت جناحها، و”تطيب خاطره” بعد أن “زعل” منها على تهورها في دعم ابنتها المدللة؛ كيان العنصرية والإبادة، وأنها وفرت له جميع السبل لكي تبقى آلة القتل نشطة بلا توقف.

لكن واشنطن قادرة دائما على تبرير أفعالها وجرائمها، حتى وهي تشترك في الحرب على قطاع مساحته تكاد تكون قريبة من مساحة إحدى حاملات الطائرات التي تملكها. لذلك، فهي سوف تقنعهم بوجهة نظرها الثاقبة، وبأنها كانت مضطرة على ما قامت به، وإلا فإن الإرهاب والفساد والخراب والأمية وعدم التسامح سوف تعم العالم الحر، وسيجد المجتمع الدولي والعالم المتمدن نفسه محاصرا بالآثام.

سيقتنع الجميع. وكيف لهم أن لا يقتنعوا وقد خبروها منذ درسها الأول الذي علمته للبشرية، حين حل أجدادهم في العالم الجديد، مهتدين بمقولات فلاسفتهم الملهمين حول تقسيمات الجنس البشري التي جعلوها مراتب، ولكل مرتبة طريقة في التعامل، فما كان منهم إلا أن “أراحوا” السكان الأصليين من جميع عذاباتهم.

ونحن؛ عربا ومسلمين، سنقتنع أيضا. وسنتعهد لها بأننا سوف ننسى “سوء الفهم البسيط”. وسنقسم لها أن مقتل عشرات الآلاف، وجرح ما لا يحصى غيرهم لا يعني أي شيء في قاموسنا، فنحن أمة لا تقدس الحياة ولا تحفل بها، بل تحتفل بالموت والموتى. ولا بأس أن نهمس لها بسر معلن، وهو أن نساءنا ولادات، وسيتم تعويض النقص الحاصل الذي ذهب “فرق عملة” بين عالمين متوازيين ولا يلتقيان؛ عالم أرواحه مقدسة، وعالم آخر لا وزن لأي جزء فيه.

ربما يساورها الشك حيال هذا الأمر بالذات، وقد تشترط نسبة معينة من الولادات التي ينبغي أن لا نتجاوزها. وقد تتسامح في ذلك، وتقول: كما تشاؤون.

ولكنها بالتأكيد لن تكون متسامحة في ملفات أخرى تعتبرها مقدسة: حقوق الإنسان، والحريات السياسية والمجتمعية والإعلامية، ونسبة مشاركة المرأة في السياسية والاقتصادية، وسوف تحذر كثيرا من غياب العدالة والتسامح وخطاب الكراهية. سوف تقف على منبر الأمم المتحدة، وتتحدث بلسان العالم الحر المتمدن لتؤكد أن لا مكان للدول غير الحرة في منظومة المجتمع الدولي، وأن الديكتاتوريات لا بد أن تنتهي إلى الأبد.

لكنها لن تكتفي بالتحذير، فهي تريد للعالم أن يتقدم إنسانيا، خصوصا نحن العرب، لذلك سوف تعمل على محو أميتنا في تلك الملفات الشائكة. عندها؛ سوف نبدأ من جديد باستقبال جميع أنواع المستشارين والمدربين والخبراء الغربيين الذي سيعلموننا كيف نكون ممتنين لخبرة واشنطن الإنسانية.

ما بعد الحرب سيكون عرضا معادا ومملا لما عشناه طويلا. سنكون طلبة نجباء للمعلم، وسوف نجعله فخورا بصمتنا وضعفنا.. وبتآمرنا على أنفسنا وبلادنا.

مقالات ذات صلة