المشهد الفلسطيني بعيداً عن النبوءات الدينية والتنبؤات والسياسية

لؤي صافي

حرير- تتركّز الأنظار اليوم على الصراع العسكري بين الكتائب الفلسطينية المقاتلة، التي نفّذت عملية طوفان الأقصى لكسر الحصار الإسرائيلي على غزّة، والجيش الإسرائيلي الذي وظف تلك العملية لتحقيق رغبة اليمين الإسرائيلي في إعادة احتلال غزّة وطرد الفلسطينيين منها إلى صحراء سيناء. المشهد مؤلم وحزين، ولكن الأكثر إيلاماً العجز العربي في مواجهته، وتفرّق الإرادة العربية في التعاطي معه رغم المشاورات والمؤتمرات والقمم. وهو مشهدٌ لا أريد هنا الحديث عن تفاصيله ومآلاته السياسية، فقد كفاني أصحاب الرأي من الزملاء في الصحف العربية هذا العناء، لذلك أكتفي بوضعه في سياقه العربي وأبعاده القيمية والحضارية، وبطرح أسئلة يحتاج الظرف التاريخي وطبيعة التحدّيات التي تحيق بالأمة إجابات عليها.

شكّلت عملية طوفان الأقصى ضربة مادية ونفسية كبيرة للدولة الصهيونية، وأظهرت أن حصارها المطبق على غزّة، وكل الإجراءات الأمنية التي حشدتها على حدود المنطقة الفلسطينية الوحيدة التي تخضع لإدارة فلسطينية مستقلة، غير كافية لترويض الفلسطينيين وسحب أوراق المقاومة من بين أيديهم. حرّك الحدث الكبير مشاعر عميقة في الشارع العربي المتعاطف مع الحقّ الفلسطيني المستلب، والغاضب من العجز العربي الرسمي عن رفع الظلم الصارخ عن الأرض المحتلة المستمرّ منذ عقود طويلة. كان الهدف من “طوفان الأقصى” تسديد ضربة موجعة للدولة الصهيونية تُخرجها من أوهام الهيمنة الكامنة على أبناء غزّة، وتزوّد الكتائب الفلسطينية المقاتلة بأسرى لاستخدامهم في عمليات التفاوض للإفراج عن المحتجزين الفلسطينيين الذين وضعهم الاحتلال عنوة ومن دون تهم أو محاكماتٍ في سجونه، وتغيير شروط الحصار الإسرائيلي الجائر.

تبع “طوفان الأقصى” سيلٌ من التصريحات النارية والتحليلات السياسية، وسمعنا التنبؤات عن بداية النهاية للوجود الإسرائيلي في فلسطين وقيام دولة فلسطين الحرّة، مدعومة بشواهد من آيات قرآنية وأحاديث نبوية، ومن تحليلات سياسية بشأن الوضع الداخلي لإسرائيل، والتعاطف الشعبي العالمي مع القضية الفلسطينية، وعن الضربات القاتلة التي سدّدتها المقاومة الفلسطينية ضد هجمات جيش الاحتلال، وأعداد الجنود الذين سقطوا والمدرّعات التي دمرت خلال الشهور الماضية.

وكي لا يذهب الخيال بعيدا عن الأسئلة الرئيسية التي يفرضها الصراع القائم، والتي تسعى هذه المقالة إلى الإضاءة عليها، أؤكد هنا أنني لا أنكر بالضرورة صحّة النصوص الدينية أو المعطيات السياسية والعسكرية التي تنطلق النبوءات والتحليلات منها، ولا أقلّل من القدرات العالية والإرادة الصلبة والصمود المذهل لعرب فلسطين، كما لا أتجاهل، في سياق تحليل الخطابين، الديني والسياسي، أهمية ما جرى في الأشهر الماضية وأبعاده، وأثرهما على صيرورة الصراع العربي – الصهيوني. نعم، تشكل جهود الفلسطينيين المذهلة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وصمودهم الهائل أمام دولة توسّعية تملك الدعم الكامل وغير المشروط من الدول الكبرى، نقطة انعطاف مهم في الصراع العربي الإسرائيلي، وتظهر لكل من يرى ثمرات الإيمان العميق، والإرادة الحرّة، والعمل الدؤوب، في تغيير معادلات الصراع رغم التباين الهائل في الإمكانات والقدرات.

وبالتأكيد، تأتي المواقف الرافضة عجرفة القوة والمتمسّكة بالحقوق والقيم والمبادئ في لحظة تراجع وضعف واستسلام عربي رسمي لتعيد للأجيال الناشئة الثقة بالنفس والثقة بالحقّ الذي يعلو ولا يُعلى عليه. ولكن هذه المشاعر والمواقف لا تبرّر حالات النشوة والشعور بالانتصار الذي تردّد بين قادة الرأي في الإعلام، وبين الخطباء والوعّاظ ورجال الفتاوي والتنبؤات، فنشوة النصر الصادرة عن تفاعل عاطفي يمكن أن تنقلب إلى إحباط ويأس عندما يتغيّر المشهد لأسبابٍ تتعلق، بالدرجة الأولى، بأشكال ردّ الفعل العربي بعدما تحوّل المواطن العربي عموما إلى مُشاهد منفعل يجلس خلف الشاشة مترقّبا التحرّكات الميدانية تماما كما يجلس جمهور كرة القدم وهو يتابع الفرق المتنافسة بحثا عن نشوة الانتصار.

أما النبوءات فسرعان ما تتحوّل إلى مسكّنات ومفتّرات، خصوصاً وأنها تفتقر إلى المؤشّرات الكافية لربطها مباشرة بحدث سياسي محدد، لعموم الألفاظ التي صيغت بها ولافتقارها للإطار الزماني والمكاني الدقيق. مشكلة التنبؤات لا تتوقف عند طابعها الظني والهلامي، بل تتعلق في المقام الأول بتجاهل دور الإنسان العربي بوصفه الفاعل الاجتماعي والتاريخي في أي صراع سياسي وإنساني يجري على أرضه وداخل دائرة مسؤوليته الوجودية، فالصراع على مستوى الفعل التاريخي هو بين أشخاص وقوى اجتماعية لا محض صراع فكري نظري، فالأفكار لا تأخذ شكلاً اجتماعيا تاريخيا إلا عندما تتحوّل إلى أشخاص وحركات اجتماعية. وكذلك فإن التنبؤات في صيغتها السياسية تتجاهل مسؤولية المحيط العربي الذي ينتمي إليه أبناء فلسطين، ودوره الجوهري في الصراع التاريخي والحضاري الذي يجري منذ عقود على أرض فلسطين المغتصبة.

السؤال الذي يجب أن يُطرح عند الحديث عن انتصار الحقّ الفلسطيني وبداية نهاية الدولة الصهيونية هو الدور العربي في هذا الصراع. هل ثمّة دور واضح للعرب في الصراع الذي بدأ عربيا صهيونيا قبل أن تنجح الحركة الصهيونية بتحويله إلى صراع فلسطيني إسرائيلي؟ هل يمكن للفلسطيني أن يواجِه منفردا العدوان الإسرائيلي المدعوم غربيا؟ وأين يصطفّ العرب في هذا الصراع؟ ثم هل يمكن لمشروع يقوم على العدوان واغتصاب الأرض وتجاهل الحقوق أن ينهار من دون قيام مشروع بديل يقوم على الدفاع عن الحقوق وتجريم العدوان على الأنفس والممتلكات والحريات؟ أعلم أن هذه أسئلة كبرى تتطلّب جهوداً كبيرة وزمانا ممتدّاً قبل أن تظهر آثارها. ومع ذلك، من واجب القيادات السياسية والثقافية والدينية طرحها، وتحديد الخطوات الأولى والطريق المناسب للوصول إليها، وهذا هو البعد الغائب في الوعي الجمعي عند الحديث عن الحاضر والمستقبل، فالانتصار ليس أمنية تجول في النفس، وإنما فعلٌ يتجلى على الأرض ويتجسّد في مسرح التاريخ، حيث تتلاحق الأفعال التي تحكي قصة الإنسان. بل لا نبالغ إن قلنا إن غياب الإطار القيمي والمعرفي الضروري لطرح سؤال التحدّي الذي يشكله المشروع الإسرائيلي المستمر في التقدّم مع التراجع المستمر للقدرات العربية، يرتبط مباشرةً بتزايد حجم التحدّيات التي تلامس حياة العرب اليومية، من نقص في الموارد، وتنامي التسلط والاستبداد، وهجرة الشباب الطامح للبناء هربا من العبث والظلم، كما يرتبط بزيادة التضخم المالي والتفاوت الاجتماعي وانتشار الفقر في المجتمع العربي.

ولنعد إلى سؤالنا الأول وما يتبعه من أسئلة رئيسية في سياق تقدير الموقف: هل يمكن للحقّ الفلسطيني أن يعود ضمن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المدعوم دوليا مع غياب الحقوق في مجمل المجتمعات العربية المنشرة من الخليج إلى المحيط؟ وكيف يمكن للعربي الذي يفتقد أبسط حقوق الإنسان، حقه في الاحتجاج على الظلم الإداري والفساد المالي الذي يهدد أمنه وينهب ثرواته، أن يساهم بقوة وجدارة بدعم الحقّ الفلسطيني؟ وهل يستطيع العربي ممارسة حقوقه “النظرية” من دون أن يمتلك القوة السياسية الضرورية لتحقيقها، ومن دون استشعار مسؤولياته الأخلاقية والوطنية تجاه أبناء بلده ومجتمعه؟ وكيف يستطيع التونسي أو المصري أو السوري أن يقف وقفة عملية إلى جانب الفلسطيني، وهو الذي يرى الظلم والعدوان على الحقوق والممتلكات ينخر في أهله وأبناء قريته ومدينته، بينما يقف هو عاجزاً عن دعمهم والدفاع عنهم خوفاً من بطش السلطان أو طمعا بعطائه؟ ثمّة خطوة أولية وصعبة على الأجيال الصاعدة من العرب القيام بها لتحويل الحديث عن الحقوق من شعاراتٍ إلى ممارسات، وثمة خطوة أولية تتعلق بالتعاون العربي يجب تحقيقها قبل الحديث عن تجلّ حقيقي للحق الفلسطيني في صراع يقوم على تناقضات في الرؤى الكلية والاصطفافات الثقافية والحضارية. ترتبط هذه الخطوة الأولية بترجمة الحقوق من شعاراتٍ نظريةٍ إلى علاقاتٍ ومؤسّساتٍ اجتماعية. بتعبير أدقّ، ثمّة حاجة إلى ترجمة الحقوق الاجتماعية والسياسية إلى ممارساتٍ عمليةٍ وعاداتٍ اجتماعيةٍ تدفع الناس تلقائيا للاصطفاف مع المظلوم ضد ظالمه، وإلى ممارساتٍ يستنشقها الطفل بملء وعيه وهو ينشأ في محيطه الأسري والاجتماعي تماما كما نراها تتجلى كل يوم في سلوك الطفل الفلسطيني في الأرض المحتلة. هذا الترابط بين القيمة والفكرة والسلوك هو البعد الغائب الذي يحوّل العربي إلى متفرّج في ساحة الصراع لإحقاق الحق ودحر الباطل، فهو يرى حقوق الضعيف تستلب في حيّه وبلدته ووطنه، فيحتقر ضعف الفقير ويغبط القوي على شطارته، ولا يرى أن واجبه التعاون مع أبناء جواره وبلدته لمساعدة المظلوم والأخذ على يد الظالم ومنعه من ظلمه.

نعم، الكفاح الفلسطيني ضد التسلط الدولي هو جوهر المعضلة العربية، ولكنه لن يكون بديلا عن كفاح الإنسان العربي على امتداد الأرض التي يقف عليها لإصلاح الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل رديف له في السعي الدؤوب إلى تشكيل المجتمع القادر على تحويل العاطفة والغضب إلى علاقات ومؤسّسات ومنظمّات قادرة على بناء المستقبل والدفاع فعليا عن الأرض والكرامة والوجود.

مقالات ذات صلة