يوم نأت السلطة الفلسطينية بنفسها عن غزّة

مالك ونوس

حرير- لم تتفاعل السلطة الفلسطينية، بمؤسّساتها التنفيذية والتشريعية، مع العدوان الذي شنه جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة في 9 مايو/ أيار الجاري، واستمر خمسة أيام، وبدت في صمتها وكأنها تراقب حرباً تجري ضد شعبٍ آخر وليس ضد شعبها الفلسطيني الذي تدَّعي تمثيله. ربما تتقصَّد هذه السلطة من نأيها بنفسها عن هذه الحرب، وعن قيامها بواجبها تجاه شعبها، أن تثبت أنها ليست سوى سلطة سيطرة وقمع واستبداد، وعلى من يعيش في كنفها قبول هذا الواقع والضرب بسيفها أو ينال العقاب. غير أن هذه السلطة، بفعلتها تلك، لا تدرك أنها ستصبح معزولة أكثر فأكثر، وسيجري تكريس نظرة الجميع إليها بوصفها سلطة تنسيق أمني، وظيفتها حضور اللقاءات التطبيعية مع الاحتلال، ومنع المقاومين من استهداف المحتلين الإسرائيليين، بل وحتى منعهم من الدفاع عن أنفسهم ضد عمليات المداهمة والاعتقال والتصفية الجسدية التي ينفذها الاحتلال، كما يجري في الضفة الغربية والقدس.

كانت لدى السلطة الفلسطينية (أو منظمة التحرير) فرصة ذهبية لكي تُظهر أنها مسؤولة عن جميع الفلسطينيين، في الضفة وغزّة، وذلك حين امتنعت المقاومة الفلسطينية عن الرد الفوري على عمليات الاغتيال الإسرائيلي بحق كوادرها، وعلى عمليات قصف المنازل والأراضي في غزة في اليوم الأول للعدوان. يومها كان في وسعها التوجّه إلى كل المحافل الدولية والمجتمع الدولي لإظهار الصورة الحقيقية لهذا العدوان، وتبيّن للجميع أن الأمر ليس معركةً بين طرفين، بل هو عملية اعتداء على شعب آمن وانتهاك واضح للقانون الدولي والإنساني، وتوضح أنه إن تطوّر الاعتداء إلى صراع سيكون صراعاً بين قوتين غير متكافئتين. أما إذا كانت السلطة محرجةً خلال الاعتداءات السابقة حين كانت المقاومة تردّ فوراً على الاعتداءات المماثلة، فلم ترفع صوتها، فإن صمْت المقاومة وامتصاصها الضربات المؤلمة كانا بمثابة الهدية التي تلقتها منها على طبق من ذهب، لكي تفعِّل دورها وتحوز ثقة جماهيرها، غير أنها لم تستغل ذلك، وفضلت النأي بنفسها عن آلام شعبها. وفي هذا النأي، تعزل السلطة الفلسطينية نفسها وتهمِّش دورها على الساحة الفلسطينية والساحات الدولية.

أما التصريحات الخجولة والإدانات التي خرجت بها الرئاسة الفلسطينية على لسان الناطق باسمها، أو رئاسة الوزراء الفلسطينية أو وزارة الخارجية الفلسطينية، والتي غابت عنها لهجة التهديد، لا ترقى إلى التحرّك السياسي والدبلوماسي القادرة على أدائه داخلياً وخارجياً والمناط بها والمأمول منها القيام به. وليس في هذه الإدانات أو التصريحات الغاضبة أي اختلافٍ عن اللهجة التي عودتنا عليها السلطة طوال الاعتداءات الإسرائيلية السابقة والدورية على القطاع، فهل السلطة غير قادرة أم تنعدم لديها الإرادة للقيام بذلك التحرّك المؤثر، أو حتى الضغط العسكري أو الجماهيري على الاحتلال، وكذلك قطع العلاقات معه؟ أم أنها تريد تعميق الانقسام الفلسطيني، حين تُمعن في تكريس ما يُراد تكريسه من أن الصراع، في حقيقته، بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة الجهاد الإسلامي، وليس عدواناً على الشعب الفلسطيني برمته؟

من المعروف أن السلطة الفلسطينية التي تسارع إلى عقد اللقاءات المشتركة مع الاحتلال الإسرائيلي، وتستمر بالتنسيق الأمني معه، على الرغم من تهديداتها الدائمة بوقف هذا التنسيق، بعد كل جريمة يقترفها هذا الاحتلال بحقّ أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس، تضع خلف ظهرها مسألة المصالحة الوطنية لإنهاء الانقسام. وتمتنع عن ذلك، على الرغم من أن هذه القضية باتت من أكثر القضايا إلحاحاً، وباتت معالجتها باليد، خصوصاً أن اتفاق المصالحة الذي وُقع بينها وبين الفصائل قبل أشهر في الجزائر، قد وفّر لها الأرضية للسير في هذا المسار. وبينما تمارس هذه السلطة هذا الأمر تستمرّ في ضرب مقومات إحياء المشروع الوطني الفلسطيني الجامع، عبر تكريس الخلافات مع الفصائل المقاومة في غزّة، وعبر تدجين حركة فتح، وشل عمل منظمة التحرير الفلسطينية، وتُمعن في تحويل هذين الكيانين التاريخيين إلى كيانين تسلّطيين، وفي حالة متقدّمة، تحويل فتح إلى كيان قامع للعمل المقاوم، ينشط دورها هذا كلما لاحت بشائر انتفاضة فلسطينية جديدة في الضفة.

ويفوت القائمين على السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عبّاس أن تقويض جميع مؤسساتها بما فيها المجلس التشريعي والسلطة القضائية، وتركيزهما في يد رئيس السلطة، وكذلك تعطيل عمل منظمة التحرير ومجلسيها الوطني والمركزي ولجنتها التنفيذية، يؤدّي إلى زيادة هشاشة هذه السلطة، ووصولها إلى مرحلةٍ تشبه المراحل التي تصل إليها الدول الفاشلة. وكما الحال في هذه الدول، لا تستمرّ السلطة إلا بأدواتها القمعية، خصوصاً بعد استقالتها من مهامها الاقتصادية والتنموية، وتوجّهها إلى تركيز الأعمال، على قلتها، بيدها وبيد النافذين فيها. وبسبب هذا الحال الذي أصبحت عليه، بات ظهور بدائل من قبيل الحركات الاجتماعية أو تجمّعات المثقفين والحقوقيين أو النقابات أو المبادرات الشبابية بمثابة التهديد لأبوية هذه السلطة الهرمة، تنظر إليه بعين الريبة، وتستهدفه عند أول لحظةٍ سانحةٍ أو تنسّق مع الاحتلال لاستهدافه، كما يجري مع حركات الكفاح المسلح الجديدة.

إذا كان العدوان أخيرا على غزّة فرصة رفضت السلطة الفلسطينية استغلالها لتساعدها على العودة إلى القيام بدورها، فإن انكفاءها عن هذا الدور ليس من باب العجز، بل هو مقصودٌ لتكريس الانقسام، ومقصود كذلك لتكريس صورتها عند قادة المجتمع الإسرائيلي، وبعض المجتمع الدولي، أنها ترفض المقاومة أسلوباً للردّ على الاحتلال ومواجهته. وإزاء هذا الواقع، بات واضحاً أن حال الشعب الفلسطيني لن يتغيّر ما دامت هذه السلطة على عقليتها الحالية، وتستمر بممارساتها المعتادة. أما تغيير هذا الحال فهو مناط بتغيير هذه السلطة، لكي لا تواصل دولة الاحتلال منع حل قضية الشعب الفلسطيني وقضم أرضه واقتراف الجرائم بحقّه وشنّ الحروب الدورية عليه.

مقالات ذات صلة