عن صور “طوفان الأقصى” وثمنها

عائشة البصري

حرير- لن تدخّر الآلة الحربية الإسرائيلية جهدا لاستعراض قوتها الانتقامية بعد الفضيحة التي لحقت بها يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول العظيم في عملية طوفان الأقصى. لا شيء سيمحو صور القصف بالطائرات المسيّرة الانتحارية وإنزال الطائرات الشراعية وتحرّكات الزوارق البحرية واجتياح إسرائيل بالدرّاجات النارية تحت غطاء وابل من صواريخ المقاومة الفلسطينية. لا شيء سيبدّد صورة تسلّل مئات المقاومين إلى قواعد جيش الاحتلال واختراقهم تحصيناته العسكرية ومستوطناته في واضحة النهار. مهما انتقمت إسرائيل من المدنيين الفلسطينيين، لن تغيّب صور الجثث المبعثرة لجنود الاحتلال وهروب ضبّاط ونخب قتالية منه مخلفين وراءهم دبّابات وشاحنات مصفّحة وأسرى بالجملة. ستظلّ هذه الصور محفورة في مخيال إسرائيل والعالم، شأن كل الصور الصادمة والخارقة للعادة، لكن ثمن هذا الزحف الكبير يُرعب أهل قطاع غزّة وباقي الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.

الجديد في عملية طوفان الأقصى، أنها كانت استعراضا في إخراجها إلى حد كبير، إذ تم تخطيط الزحف بحبكة درامية شبه هوليوودية. لا شك أنه ضربٌ من الجنون أن يفكّر مئات المقاومين الفلسطينيين في التسلّل من سجن غزّة برّا وبحرا وجوّا للزحف على إسرائيل وثكناتها ومستوطناتها، رغم منظومة الجدار المُحصَّن بجدرانٍ اسمنتيةٍ وتلالٍ رمليةٍ وأبراج مراقبة عسكريةٍ والكترونيةٍ وأسلاكٍ شائكةٍ وكاميراتٍ وأجهزة استشعار وغيرها من التقنيات العسكرية المتطوّرة التي يُفترض أن ترصد أي تسلّل، وتطلق النار على المتسللين. أما أن يُنفذ هذا المشروع على مرآى العالم ومسمعه، فهو الجنون بعينه، خصوصا وقد صيغ سيناريو الزحف في شكل فيلم هوليوودي يحترم قواعد الحبكة الدرامية ليروي قصة زحفٍ رُتّبت له الأحداث، وسُخّرت له شخصياتٌ لكل منها دورُها في اجتياز كل العقبات، لتثأر جميعها من المجرم الإسرائيلي الذي أمعن في إجرامه.

كان اختيار يوم الزحف، السابع من أكتوبر، رمزيا للغاية في تخليده الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر 1973. ولم يكن اختيار صباح يوم سبت محض مصادفة أيضا، إذ تزامن مع يوم عطلة ليس فقط في إسرائيل، بل في كل العالم، ما أتاح فرصة إبقاء ملايين المشاهدين أمام التلفاز حتى المساء على الأقل، وهم يتابعون هجوما فلسطينيا يضرب كل رموز القوّة التي تتبجّح بها إسرائيل، بدءًا باستخباراتها، العين التي يُفترض أنها تعلم ما في الصدور، وبدأت كأنها في غفوةٍ وغفلةٍ من هجوم ربما استغرق تحضيرُه شهورا أو أكثر، وشارك فيه مئات المقاتلين.

تفرّج العالم على وابل الصواريخ وهي تحلّق فوق سماء الاحتلال ساعتين، من دون أن يُقلع مقلاع داود ومعه منظومة القبّة الحديدية، لصدّ هجومها. شاهد الاسرائيليون المقاومة الفلسطينية تخترق بسهولةٍ لا تُصدّق الجدار المحصّن في عمليةٍ تخللتها لحظات استعراض لم تخلُ من حسّ فكاهي، جسّده حضورٌ لافتٌ لأدوات غير عسكرية من قوارب عادية ودرّاجات نارية وجرّافات ومظلات ملونة عاملة بالموتور تحوّلت بأقل تكلفة إلى أسلحة مقاومة.

اكتشف الإسرائيليون على شاشاتهم، وعبر فضائياتهم، بما لا يدع مجالا للإنكار، أنهم مسخرة. كانت كل صورة من صور الزحف الكبير تروي قصة فشل أحد أقوى جيوش العالم في بضع ساعات وبأبسط الإمكانات؛ قصّة أبدع في إخراجها وتصويرها إعلام المقاومة وقدّمها للمشاهد في قالب درامي، ما زالت أحداثه المأساوية تتطوّر ساعة بعد ساعة، وما زالت قوات المقاومة مشتبكة مع قوة الاحتلال الذي يحاول استغلال هذه الفرصة، كعادته، للمضي نحو ردّ “يغيّر الشرق الأوسط”، وفقا لعبارات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو.

بدا تَعطُّل كل منظومة إسرائيل الاستخباراتية والأمنية بضع ساعات، المثير للدهشة، يغذّي نظرية مؤامرة، مفادها أنه كان للموساد ونتنياهو علم بالهجوم وبتوقيته، وفضلوا التضحية بمئات الإسرائيليين من أجل تحقيق مشروع توسّعي عبّر عنه نتنياهو، أخيرا، في خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ78 بنيويورك، عندما رفع خريطة الشرق الأوسط تظهر إسرائيل وقد ابتلعت الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويستحضر مُروّجو هذه الأطروحة تأكيد تل أبيب استمرار الحصار والحرب على غزة اليوم، حتى لو تطلب الأمر التضحية بحياة الرهائن الإسرائيلية المحتجزة، تطبيقا لبروتوكول “هانيبال” الذي يتيح لقوات الاحتلال اللجوء إلى الأسلحة الثقيلة، حتى لو شكّل هذا خطرا على حياة الجندي الأسير.

يصعب التأكد من أطروحة خطيرة كهذه، مثلما يصعب التكهن بما سيؤول إليه الوضع في غزّة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة والمنطقة ككل، جرّاء عملية طوفان الأقصى التي سارع الاعلام الإسرائيلي والغربي إلى مقارنتها بهجمات 11 سبتمبر (2001) في الولايات المتحدة، مع ما يعنيه ذلك من تداعياتٍ جسيمة على الفلسطينيين والمنطقة العربية. لكن من الواضح أن حكومة إسرائيل الفاشية المهووسة بالسطو على الأراضي الفلسطينية عبر التهجير القسري لسكانها لن تكتفي بتدمير غزّة وقتل الآلاف من سكانها، وقد توظّف الهجوم والدعم الغربي المطلق لجرائمها، في ترويع سكان غزّة وإجبارهم على الهروب الى سيناء، تحت الذريعة الإنسانية. ولقد ظهرت مؤشّرات على هذا التوجّه، فقد تلت مطالبة نتنياهو سكّان غزة الخروج منها توجيهات الجيش الإسرائيلي الفلسطينيين الفارّين من محرقة غزّة بالتوجه إلى مصر. حسب تقرير وكالة رويترز ليوم 9 أكتوبر/ تشرين الأول، فإن كبير المتحدّثين العسكريين، العقيد ريتشارد هيخت، صرّح في مؤتمر صحافي: “أعلم أن معبر رفح (على الحدود بين غزّة ومصر) لا يزال مفتوحا… وأنصح أي شخص يمكنه الخروج بالقيام بذلك”، مع العلم أن السلطات المصرية قد حذّرت من دفع الفلسطينيين في اتجاه الحدود المصرية.

يطرح ردّ إسرائيل على عملية طوفان الأقصى أكثر من سؤال: هل تستطيع إسرائيل تصدير “مشكلة غزّة” إلى مصر مثلما أغرقت دول الجوار بمخيمات لاجئين فلسطينيين؟ هل القيادة المصرية الحالية الغارقة في أزمة مالية غير مسبوقة قد تقبل بسيناريو كهذا مقابل إخراجها من الأزمة وبقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي في السلطة؟ هل حسبت مقاومة حركة حماس حسابا عقلانيا لتوظيف إسرائيل هجوم 7 أكتوبر على جيشها ومواطنيها من أجل تحقيق أطماعها التوسعية في غزة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة؟ أسئلة ستجيب عنها الأسابيع وربما الشهور المقبلة التي ستوضح أيضا ما قصده نتنياهو بتغيير الشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة