اللعبة الشرّيرة في أوكرانيا

أسامة أبو ارشيد

حرير- كما كان متوقّعاً، تحوّلت أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة في نيويورك إلى حلبة تبادلت فيها روسيا وأوكرانيا الاتهامات بالمسؤولية عن الحرب التي دخلت شهرها الثامن عشر والجرائم التي تُرتكب فيها. وفي حين تقف روسيا شبه وحيدة على المسرح الدولي، اللهم إلا من بعض دول ليست بذلك الحجم تؤيدها صراحة، كبيلاروسيا وكوريا الشمالية وسورية وفنزويلا، فإن أوكرانيا لا تعدم داعمين كثيرين، خصوصاً في المعسكر الغربي، وامتداداته، كاليابان وكوريا الجنوبية. وليس خافياً أن الولايات المتحدة، بدعم من حلفائها الأوروبيين، هي من تدير عملياً التصدّي الأوكراني للغزو الروسي، ولولا ذلك لكانت أوكرانيا طحنت طحناً، رغم كل العيوب الهيكلية والبنيوية في القوة العسكرية الروسية التي عرّتها هذه الحرب. ومن ثمَّ، لم يكن مستغرباً أن يتصدر الرئيس الأميركي نفسه، جو بايدن، المشهد عبر المنبر الأممي لمهاجمة روسيا واتهامها وحدها بالمسؤولية عن “العدوان السافر” في أوكرانيا.

لا نقاش في أن الاجتياح الروسي لأوكرانيا في فبراير/ شباط 2022 يمثّل غزواً غير مشروع وعدواناً سافراً، إذا ما استعرنا تعبير بايدن. والعدوان على أوكرانيا ليس أول عدوان خارجي في تاريخ روسيا القديم والمتوسط والحديث، وقد لا يكون الأخير. هذا معلوم، وهو ديدن منهجي لديها، مثبت وموثّق. لكن، واشنطن، وعواصم أوروبية أخرى، ليسوا بريئين في هذا الصدد، ولا حتى كييف، بمن في ذلك الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي. طبعاً، لا نريد أن ننسى هنا أن الولايات المتحدة ودولا أوروبية كثيرة لا يقلون وحشية وعدواناً على آدمية الشعوب الأخرى وانتهاكاً لسيادة الدول المستقلة. هذه قصة أخرى وإن كانت متصلة، من ناحية، بموضوعنا هنا.

منذ سنوات، وواشنطن تسعى إلى استفزاز روسيا في أوكرانيا من خلال طرح نقاشات حول احتمال قبول عضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو). بالنسبة لموسكو، لم يعن هذا انسياب الغرب وسيطرته على منطقة كانت تاريخياً تدور في فلكها، بل أيضاً الضغط عليها عسكرياً وتهديد أمنها القومي من على حدودها الغربية. ومعلوم أن الحلف يضيّق الخناق على روسيا، منذ أوائل عقد التسعينيات، عندما انهار الاتحاد السوفييتي، فكان أن تمدّد في فضاء نفوذها السابق في شرق أوروبا ووسطها، وفي آسيا الوسطى كذلك. وفي عام 2014 أطاحت ثورة في أوكرانيا حليف موسكو، الرئيس الأسبق، فيكتور يانوكوفيت، عدت روسيا ذلك مؤامرة غربية، فتدخلت عسكرياً في شرق أوكرانيا، بذريعة حماية الناطقين بالروسية، وأقامت إقليمين انفصاليين، تحت اسم جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وضمّت شبه جزيرة القرم إليها. لم يتدخّل الغرب بقوة لدعم حلفائه في كييف حينها، ولكنه فرض عقوباتٍ على روسيا، ومن وقتها لم تهدأ تلك الجبهة.

لكن واشنطن التي تريد استنزاف روسيا بأي طريقة، وإضعافها إلى أقصى حدّ ممكن، وجدت ضالتها في زيلينسكي، الممثل الكوميدي الذي أصبح رئيساً عام 2019. مضى الرجل بعيداً في طموحات الانضمام إلى “الناتو” عسكرياً، والاتحاد الأوروبي اقتصادياً. هذا حقّ سيادي لأوكرانيا، لكن التعقيدات والحسابات الجيوسياسية هي ما يحكم في النهاية، لا ما يقوله القانون الدولي. وحدهم الواهمون من لا يدركون ذلك. وهو أمر لم تترّدد الولايات المتحدة يوماً في تذكير العالم به، من أميركا الجنوبية، إلى شرق آسيا وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط، وأفريقيا. وقع زيلينسكي في الفخّ ومعه سقطت أوكرانيا فيه، فكانت النتيجة أن دمّرت البلاد، وتحوّل مواطنوها ما بين مشرّد ونازح ولاجئ فيها وفي أصقاع الأرض. الأهم والأخطر أن روسيا كذلك سقطت في الفخ نفسه الذي نصبته واشنطن، وبعض حلفائها الأوروبيين، فاجتاحت أوكرانيا، مدفوعة بغرور القوة الساحقة التي ظنت أنها تملكها، فكان أن تكسّرت أمواجها على صخر الدعم الغربي الهائل لكييف، دعْ عنك ما تكشّف من فساد وأعطاب في مفاصل الدولة الروسية كلها، بما في ذلك مؤسّستها العسكرية.

اليوم تمور الدنيا بروسيا، لم تعد القوة العالمية الثانية كما كان العالم يحسبها ويخشاها، اللهم إلا إذا قصرنا ذلك على قدراتها النووية، غير أن ذلك سلاح ردع لا لحربٍ تقليدية. لقد سقطت هيبة موسكو، وأصبحت مهيضة الجناح تتسول تفهم ودعم حلفاء كانت تعاملهم بندية، كالصين، أو بدونية، كالهند والبرازيل وتركيا وإيران وجنوب أفريقيا. لم تكن الصدمة من الأداء الروسي محصورة في جانبها العسكري وتكففها السلاح من إيران وكوريا الشمالية، بل كذلك على المستويات الاقتصادية والديبلوماسية. فجأة نكتشف أن الولايات المتحدة قادرة، إلى حدٍّ كبير، على تهميش أو فصل أي دولة تشاء، حتى لو كانت بحجم روسيا، عن النظام المصرفي الدولي. ووفقاً للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، كان 2022 عاماً سيئاً بالنسبة للاقتصاد الروسي. وحسب التقديرات، انخفض الناتج القومي الإجمالي لروسيا في العام الماضي بنسبة 2.1%، ويتوقّع أن ينخفض هذا العام بنسبة 2.5%.

ديبلوماسياً، يتابع المراقبون بدهشة الخطاب الروسي. نظام الكرملين الحديدي يتوسّل اتفاقاً مع كييف، ويتهم الغرب بمنع انعقاد مفاوضات سلام. في الأمم المتحدة، وفي مجلس الأمن، تُوَبَّخُ روسيا وممثلوها بطريقة مهينة، كما جرى في مجلس الأمن، يوم الأربعاء الماضي، عندما وبخ رئيس دورة المجلس الحالية، ممثل ألبانيا، المندوب الدائم الروسي، وأعطى ممثل أوكرانيا حقّ الحديث أولاً. حتى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، المسكون بعقدة تقديم روسيا قوة عظمى لم يسلم هو نفسه من المهانة. وقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحقّه، فأصبح عاجزاً عن السفر إلى دول كثيرة، حتى القريبة من بلاده، كما جنوب أفريقيا والهند. وحدث أن تلقّى توبيخات ضمنية من الرئيسين الصيني والهندي ولم ينطق ببنت شفة. أما ثالثة الأثافي، فهي محاولة حليفه السابق، زعيم مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، التمرّد عليه وإطاحته قبل ثلاثة أشهر لولا وساطة الرئيس البيلاروسي. صحيح، أن بوتين اغتاله، على الأرجح، الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، لكن يبدو أنه من الصعب ترميم صورته مرّة أخرى زعيما قويا.

رغم ذلك كله، لا يقلّ زيلينسكي مسؤولية في الجريمة بحقّ بلاده. صحيح أن الغرب وحلفاءه قدّموا لأوكرانيا مئات المليارات من الدولارات، مساعدات اقتصادية وعسكرية، وصحيح أنهم أدموا روسيا واستنزفوها، ولكن ذلك كله يتم على حساب أوكرانيا وشعبها بالدرجة الأولى. أي أوكرانيا بقيت؟ وأي أوكرانيا ستعود بعد أن ينتهي العدوان الروسي؟ وهل فعلاً ستستمرّ واشنطن وحلفاؤها، تحديداً الأوروبيين، في تقديم الدعم لها بعد أن ينتهوا من استخدام ورقتها وورقة زيلينسكي الذي يعيش مصدّقاً محاولات ترميزه رغم أنه لا يملك مقوّمات ذلك. هذا مشكوكٌ فيه، فالتضخّم يأكل اقتصاداتهم وينهكها، وشعوبهم تئنّ تحت وطأة الفقر الآخذ في الاستشراء بينهم، وأوروبا الآن على موعدٍ مع شتاء قارص، من دون أن تتمكّن من تعويض الغاز والنفط الروسيين. حتى الولايات المتحدة التي نجحت في استنزاف روسيا، وإبقاء الاتحاد الأوروبي في فلكها، وأرسلت رسائل ردع للصين في تايوان، أو هكذا تتمنّى، تواجه واقعاً اقتصادياً صعباً، خصوصاً مع تصاعد أصوات في الحزب الجمهوري في الكونغرس تطالب إدارة بايدن بوقف الدعم الذي تقدمه لتايوان والالتفات إلى حاجات شعبها.

باختصار، سيمضي زيلينسكي وبلاده تُسحق في وهمه وكأنه يمثل قوة عظمى، وستستمرّ روسيا في تدمير أوكرانيا، في الوقت الذي تُسْتَنْزَفُ فيه، وستبقى واشنطن تسعر الحرب ومعها حلفاؤها، لكن الجميع قد يستيقظون على واقع كارثي من صنع أيديهم ومبالغتهم في غيّهم. للأسف، لن يكون كثير من العالم مستثنى من الكارثة إن وقعت.

مقالات ذات صلة