لمّا نجح اليمين الإسرائيلي في استعداء مؤسسات الدولة

أحمد الجندي

حرير- لم يصل الصراع بين اليمين الحاكم ومؤسّسات الدولة في إسرائيل في أي وقت إلى درجة من الحدّة والخطورة مثلما يحدُث حالياً؛ فقد شهدت الأيام الماضية خروج العداء إلى العلن من مسؤولين كبار وأعضاء كنيست عن قوى التحالف الحكومي، تنتقد بشدة ما تمارسه المؤسّسات المختلفة، وفي مقدّمتها القضاء، وبعض كبار القادة في الجيش والشرطة، فاليمين الإسرائيلي يرى أن هذه المؤسّسات تمثل الدولة العميقة التي يسيطر عليها اليسار الإسرائيلي. ونتيجة ذلك، لن تعطيه الفرصة ليحكم منفردا، وأنها تعمل من أجل إفشال أول تجربة لحكومة يمينية خالصة، تشكل الأحزاب الدينية فيها نسبة النصف تقريبا.

ليس من السهل أن نحدّد إن كان عداء مؤسّسات الدولة الحكومة ومكوّناتها الحزبية معدّا له سلفا بمجرّد أن لاحت ملامح التشكيلة الحكومية بمشاركة واسعة للأحزاب الدينية، وتولي بعض أعضائها وزاراتٍ سياديةً على نحوٍ غير مسبوق، أم أنه كان رد فعل للأخطاء التي وقع فيها اليمين الإسرائيلي حين اتّخذ نهجا ثوريا في سعيه إلى تعديل بعض القوانين الأساسية، والذي ظهر عندما أطلق على التعديلات تسمية “الثورة القضائية”، من دون أن يدرك أن هذا النهج سوف يستفزّ قوى المعارضة وأجهزة الدولة في الداخل، ويؤثّر سلبا على علاقاته مع أقرب حلفائه في الخارج، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة.

ولكن ما يمكن تأكيده أن نتنياهو وحلفاءه ارتكبوا أخطاء بالجملة منذ اليوم الأول للحكومة، ولم يتّخذوا النهج الأمثل في إدارتهم الأزمة، وأن ما قامت به قوى الائتلاف الحكومي، بدءا من نتنياهو وأعضاء حكومته وصولا إلى القواعد الشعبية، في حديثهم عن السلطة القضائية وتغوّلها على السلطتين التشريعية والتنفيذية أعطى انطباعا أن التعديلات المستهدفة تريد النيْل من دور السلطة القضائية وتحجيم دورها، وأرسل رسائل سلبية كثيرة داخل إسرائيل وخارجها، كان لها دورها في تضخيم العداء وأن تشعر مؤسسات الدولة بأنها مستهدفة؛ ومن ثم تتحرّك لتدافع عن وجودها واستقرارها وأيديولوجيتها التي نشأت عليها، وهي تعتقد، أو ربما تحاول أن تقنع نفسها بذلك، أنها بتحرّكها ضد الحكومة تدافع عن الدولة نفسها، ومن هنا تتحوّل بصورة عفوية أو متعمّدة لتصبح طرفا في الصراع.

تعرّضت لهذا الموقف كل المؤسسات تقريبا، وفي مقدّمتها الجيش الإسرائيلي الذي أصبح في قلب الصراع السياسي، وأصبح هدفا لانتقادات المسؤولين الإسرائيليين والمقرّبين من الحكومة وغيرهم، وهو خطأ كبير ارتكبه وزراء وأعضاء في الكنيست عن الليكود والأحزاب الدينية. ويبدو أن أحدا من المنتقدين لم ينتبه إلى أن تعرّضهم لمؤسّسةٍ تلقى احترام الإسرائيليين كافة ستسهم في النّيل من صورة الجيش، من خلال تصويره طرفا منحازا لفريق ضد آخر، وهو المؤسّسة الوحيدة التي يحرص الجميع على التعامل معها باحترام وحرص شديديْن. وإذا كان من شأن هذه الانتقادات أن تضرّ الصورة الذهنية المرسومة للجيش الإسرائيلي، فإنها ستضرّ، في المقام الأول، المنتقدين أنفسهم، لأنهم سيخسرون الرأي العام الذي لا تقبل غالبيّته مثل هذه التصرّفات بحقّ مؤسّستهم العسكرية الأولى.

ويزيد احتمال خسارة الرأي العام أن الانتقادات التي تعرّض لها بعض قادة الجيش، وفي مقدمتهم وزير الدفاع ورئيس الأركان، صدرت كلها من قياداتٍ في الائتلاف الحاكم، متّهمة بالسطحية وضحالة الثقافة، وعدم تمتعها بالقبول لدى قطاعات واسعة من الإسرائيليين. من هؤلاء عضو الكنيست عن حزب الليكود، طالي جوتليب، التي انتقدت بشدّة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي على خلفية تصريحاته عن اشتباكات وقعت بين مستوطنين وفلسطينيين، وقالت، في كلمتها أمام الكنيست، “إن الدولة العميقة تمنع اليمين من أن يمارس سلطاته في الحكم”.. ولم يكن هذا الهجوم الأول من نوعه الذي تشنه جوتليب وغيرها من أعضاء الحكومة والكنيست ضد المؤسّسة العسكرية، ومؤسّسات أخرى في الدولة تتهمها بتشجيع منتسبيها على الإضراب عن الخدمة، فقبل أيام وجهت جوتليب اللوم لرئيس الوزراء نتنياهو لدفاعه عن مسؤولي الجيش الإسرائيلي وخاطبته بقولها “لماذا تعتذر عن لا شيء؟ ما قيمة وجود الحكومة إذا التزمنا الصمت إزاء ما قام به كبار الضباط حين أصدروا بيانا عن كفاءة الجيش بطريقة تصبّ في مصلحة أعداء إسرائيل وتضرّنا بشكل خطير. من واجبنا إدانة مسؤولي الدفاع، إذا كنا سنعتذر، فالاعتذار أن يبقى رئيس الأركان في منصبه، لأن صمته عما يحدُث شجّع ضباط الاحتياط على رفض الخدمة العسكرية الاحتياطية”، في الإطار نفسه، انتقد وزير التعاون الإقليمي دودي أمسالم قادة الجيش، لأنهم رأوا تمرّدا في صفوفه وفشلوا في إخماده.

حين ننتقل إلى تعامل قادة الائتلاف الحاكم والمحسوبين عليه مع مؤسّسة القضاء، وخصوصا المحكمة العليا والمستشارة القانونية للحكومة، سنجد الأمر نفسه؛ حيث الانتقادات التي لا تتوقّف، واعتبار القضاء رأس الحربة في مؤسّسات الدولة العميقة التي تحارب الحكومة وتعرقل نشاطها، ويتخطّى الأمر مجرّد النقد إلى التهديد بأن نظر المحكمة العليا، في 12 سبتمبر/ أيلول المقبل، في الدعاوى المرفوعة ضد التعديل الذي أقرّه الكنيست بشأن بند المعقولية كجزء من قانون القضاء؛ وهو أحد القوانين الأساسية سوف يؤدّي إلى أزمة كبرى قد تدمّر النظام السياسي في إسرائيل، لأنها لو ألغت التعديل الذي أقرّه الكنيست، فإنها بذلك تكون قد ألغت دور الكنيست في التشريع ونصّبت نفسها مكانه.

وفي المقابل، ليس موقف المحكمة العليا سهلا؛ فهناك مسألة تتعلق بالجانب النفسي لدى قضاتها؛ فالمتظاهرون المعارضون للحكومة وتعديلاتها القضائية حوّلوا قضاة المحكمة العليا والمستشارة القانونية للحكومة إلى أبطال عظام يدافعون عن الديمقراطية وحرية الإسرائيليين وسلطة القانون ضد الحكومة الدكتاتورية، حتى أصبحوا “صوت الشعب” الذي لن يسمح المتظاهرون لأحدٍ بأن يأخذه منهم، وصار من المعتاد في كل تظاهرة أن ينادي المتظاهرون بشعارات الدفاع عن القضاة، ورفع صور رئيسة المحكمة العليا، إستير حيوت، والمستشارة القانونية للحكومة، جالي بهاريف ميارا افتخارا بمواقفهما. وإذا كان ما شهدناه في كل التظاهرات، وجديدها أخيرا في 21 أغسطس/ آب الحالي، والتي سمّيت “تظاهرات الحرية” يضع القضاة في هذه المكانة العالية، فإن من المحتمل أن ينعكس كل هذا التقدير على مواقف القضاة، وربما يشعرون، حتى لو افترضنا حيادهم في الصراع الدائر، أن عليهم واجبا ألا يخذلوا هؤلاء المتظاهرين الذين حملوا صورهم دفاعا عنهم. ومن هنا، قد يتحوّل موقف القضاة الإسرائيليين من الحياد إلى مناصرة طرفٍ على الآخر. وهكذا تصبح مؤسّسات الدولة هناك شيئا فشيئا، في نظر اليمين الإسرائيلي، معادية تماما للشعب، وممارسة للهيمنة والدكتاتورية لتمكين الأقلية من السيطرة على الدولة، حتى لو كان اليمين في سدّة الحكم بأغلبية مريحة، وهي نظرةٌ أسهمت في أن تكون علاقتها بمكوّنات الحكومة سلبية إلى حد كبير.

ويبدو أن الأزمة في إسرائيل لن تشهد حلا يرضي الجميع، وعلى الأرجح أن النتيجة النهائية ستكون فوز طرفٍ وخسارة آخر. وإذا كان في وُسع القادة السياسيين تجاوز خلافاتهم بعقد التحالفات كلما تجدّدت الانتخابات، فإن الشعب لن يتمكّن من تجاوز ما حدث، وسينقسم في تعامله مع أهم مؤسّسات الدولة، المتمثلة في القضاء وبعض قيادات الجيش والشرطة، فضلا عن الإعلام والمؤسّسات العمّالية والمالية، إلى فريقين؛ أحدهما يمجّد في إخلاصها للدولة والدفاع عن الديمقراطية والقانون والحريات، والآخر يرى أنها كانت منحازة لفريقٍ بعينه طوال الوقت، ولم تقف على مسافةٍ واحدة من الجميع، وأنها استخدمت كل الوسائل الممكنة المشروعة وغير المشروعة لتنفيذ انقلابٍ على السلطة التي انتخبها الشعب … وهذا يعني مزيدا من تزعزع الثقة في هذه المؤسّسات، وهو ما يشكّل خطرا محدقا على دولة الاحتلال في المستقبل غير البعيد.

مقالات ذات صلة