الحرب على اللاجئين والنفاق الأوروبي

سمير الزبن

حرير- زادت القوى اليمينيّة والشعبويّة والعنصرية في أوروبا شعبيّتها التي أوصلتها إلى السلطة في دول أوروبية عديدة على خلفية إخافة مواطنيها من اللاجئين، بوصفهم أساس المشكلات الكبرى التي تعاني منها هذه الدول، خصوصا مشكلات الاقتصاد والجريمة. عملت هذه القوى وتعمل على تشديد قوانينها الداخلية في مواجهة حصول اللاجئين على إقامة شرعية، وجعل الحصول عليها شيئاً شبه مستحيل، من أجل تدمير الصورة الجذّابة التي سادت مع موجة استقبال اللاجئين السوريين في أوروبا منتصف العقد الماضي. بل تحاول هذه السلطات حصار اللاجئين خارج الدول الأوروبية، ومنعهم من الوصول إليها. بدأ الموضوع مع الاتفاق الأوروبي ـ التركي في العام 2016، الذي قضى بمنع اللاجئين من العبور من تركيا إلى الدول الأوروبية، وفي حال حدوث ذلك، تتم إعادتهم إليها.

واليوم، عقد الاتحاد الأوروبي ويعقد اتفاقات وتفاهمات مع الدول العربية جنوب المتوسّط، لا تقل سوءاً عن الاتفاق الأوروبي التركي، فقد اتفقت هذه الدول مع كل من السلطات المصرية والتونسية، وحتى إنها منحت المال لمليشيات ليبية لوقف تدفق اللاجئين الأفارقة من هذه الدول. كما أوقفت هذه الدول منذ سنوات برنامج إنقاذ اللاجئين من البحر المتوسط، ما أعاد وضع اللاجئين الذين يفقدون حياتهم إلى مستويات ما قبل البرنامج. والأسوأ عدوانية خفر السواحل تجاه اللاجئين، ما أدّى إلى مقتل وفقد أكثر من خمسمائة لاجئ، عندما تسبب خفر السواحل اليوناني بغرق سفينتهم قبل أسابيع. ويجري تبرير هذه الإجراءات بأنها من أجل مكافحة الاتجار بالبشر وملاحقة عصابات التهريب، من دون النظر إلى الظروف القاهرة والكوارث التي تدفع اللاجئ ليركب الموت، مخاطراً بحياته للوصول إلى مكان آمن، وكأنه يمكن محاربة تجّار الموت وعصابات التهريب، عبر معاقبة اللاجئين/ الضحايا، الذين يشكلون الطرف الأضعف في كل المعادلات التي تتعلّق بالحرب على الهجرة.

يتجاوز التضييق على اللاجئين كل حدود، حيث تسعى بعض الدول إلى تحويل حياتهم إلى جحيم، وليست الاقتراحات باحتجازهم في ما تشبه معسكرات الاعتقال أسوأ الاقتراحات، وهو ما بدأته الحكومة البريطانية بنقل طالبي اللجوء إلى البارجة بيبي ستكهولم التي استأجرتها الحكومة البريطانية، والتي سرعان ما تم العثور فيها على آثار لبكتيريا الليغيونيلا، والتي تتسبب بالتهاب الرئتين، في نظام المياه الموجود. كما يتم العمل على نقل طالبي اللجوء إلى بلدان أخرى، مثل رواندا، وهو الاقتراح الذي بدأته الحكومة الدنماركية، وتسعى الحكومة البريطانية إلى تنفيذه، رغم كل الاحتجاجات عليه ومعارضة المحاكم البريطانية، من الغريب، حسب الصحف البريطانية، أن كلفة نقل اللاجئ إلى رواندا تفوق كلفة بقائه في بريطانيا.

يكمن النفاق الأوروبي في سياسة محاربة الهجرة، في التناقض بين حاجة هذه المجتمعات الهرمة للاجئين والرفض الشعبي لهم، ولا شك في أن سياسات هذه الأحزاب واعتبار اللاجئين مشكلة أدّى إلى زيادة العداء الشعبي لهم في هذه البلدان، ولحقت كل الأحزاب بهذا الجو العدائي، فباتت كل انتخابات جديدة مناسبة لاقتراحات متشدّدة في محاربة الهجرة واللاجئين. وعمّت معاداة اللاجئين حتى أحزاب الوسط واليسار، لأن السياسات غير الشعبية تجعل الناخبين ينفضون عن هذه الأحزاب. والحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي حكم الدنمارك قبل الانتخابات أخيرا لم يغير شيئاً في السياسات المعادية للاجئين. وفي السويد، قامت الحكومة اليسارية السابقة بكل التضييقات الرئيسية على اللاجئين، وعندما جاءت الحكومة اليمينية مدعومة بالحزب العنصري من خارجها إلى السلطة قبل حوالي ثمانية أشهر، لم تجد شيئاً جدّياً لتشديده، لقد أدّى الحزب الاشتراكي الديمقراطي المهمة مسبقاً.

بعد مذكرة التفاهم التي وقعها الاتحاد الأوروبي مع تونس، كتب توني باربر في صحيفة فاينانشال تايمز مقالاً تحت عنوان “القلعة الأوروبية متعطّشة للعمالة الأجنبية” يقول فيه: عندما وقع الاتحاد الأوروبي مذكّرة تفاهم مع تونس، ركّزت التغطيات الإخبارية على أن الاتفاقية تعزّز الجهود الأوروبية للحدّ من الهجرة عبر البحر الأبيض المتوسط. لكن الحديث لم يجر عن انشغال الحكومات الأوروبية بسد الفجوات في أسواق العمل باستخدام المهاجرين غير الأوروبيين. ويشير باربر إلى وجود نقص حاد في العمالة في كل المهن، ذات المهارات العالية والمهارات المنخفضة، كما أوضحت ورقة سياسة المفوضية الأوروبية في شهر أغسطس/ آب الحالي. ويُوضح الكاتب أن فتح الأبواب أمام المهاجرين غير الأوروبيين جزءٌ من الحل. ووفقاً للمفوضية، من المقرّر أن ينخفض عدد السكان في سن العمل في الاتحاد الأوروبي من 265 مليونًا في عام 2022 إلى 258 مليونًا في عام 2030. وكانت قطاعاتٌ، مثل البناء والرعاية الصحية والهندسة وتكنولوجيا المعلومات، من بين القطاعات الأكثر تضررًا من النقص العام الماضي. وأوضح تقرير للأمم المتحدة أن “الخصوبة أصبحت في جميع البلدان الأوروبية أقلّ من المستوى المطلوب للاستبدال الكامل للسكان على المدى الطويل”.

حتى ألمانيا التي فتحت أبوابها الواسعة للاجئين خلال العقد الماضي تعاني نقصاً حادّاً في العمالة يهدّد سير الخدمات الرئيسية، خصوصا في القطاع الصحي والتعليم. والسبب الرئيسي زيادة أعداد المتقاعدين، فنقص الأطباء، مثلاً، بات يشكّل قلقاً دفع وزير الصحة الألماني إلى الدعوة إلى إيجاد آلاف مقاعد إضافية في الجامعات لتعليم أطباء وتدريبهم في وقت تفيد توقعات معهد روبرت بوش بأن 11 ألف وظيفة طبيب عائلة ستكون شاغرة بحلول عام 2035. وبحسب دراسة لوزارة العمل الألمانية، مئتا مهنة من أصل 1200 تعاني نقصاً في المهارات. وأشارت الوزارة أيضاً إلى إمكانية انضمام 157 مهنة إضافية إلى لائحة المهن التي تعاني نقصاً في العثور على مهاراتٍ لملء الوظائف الشاغرة. ومن هذه المهن التمريض والتعليم والبناء وتكنولوجيا السيارات وقطاعات المهندسين والصيادلة والمختصين بتكنولوجيا المعلومات، إضافة إلى سائقي الشاحنات والحافلات والعاملين في قطاع الخدمات، مثل الفنادق والمطاعم والصناعات المعدنية. وتحاول الحكومة ملء هذه الثغرات بجذب مهاجرين من خارج دول الاتحاد الأوروبي، إذ يشير متخصصون إلى أن ألمانيا بحاجة لأربعمائة ألف مهاجر ماهر سنوياً للتعويض عن المجتمع الهرِم والعمالة الناقصة. وليس حال البلدان الأوروبية الأخرى أفضل حالاً.

تتناقض الشعارات اليمينيّة السائدة في الساحات السياسية الأوروبية مع احتياجات بلدانها. واليوم، لا يوجد سياسيون في أوروبا يملكون القدرة أو الكاريزما على عكس الاتجاه، ومطابقة الشعارات السياسية مع احتياجات هذه البلدان. لذلك لا مبالغة في القول إن الجزء الأساسي من النخبة السياسية الأوروبية منافق، يتبع الرأي العام، بدلاً من عكس اتجاهه لمصلحة بلدانه.

مقالات ذات صلة