أفكار داخل الصندوق

حلمي الأسمر

حرير- الخوف هو العدو الأكبر لأي شعب، فهو مرض عضال لا مطعوم مضادّاً له، بل يُرضع للأسف مع حليب الأم، ويجري تناوله قبل الأكل وبعد الأكل، أول النهار بعد الاستيقاظ من النوم، وقبل أن يخلد أحدنا للفراش، وهو “منتج” تربيه الأنظمة القمعية في دفيئات الإعلام، والمناهج، والأغنيات “الوطنية” وتغلفه بشكل مرتّب، ضمن مغلفات تسميها الانتماء والوطنية والأمن المجتمعي والسلم الأهلي، ولكي تكون مواطناً شريفاً عفيفاً يجب أن تخاف من فتح فمك بكلمة تمس “الآلهة” التي تسكن القصور، وتحكم بتفويض مفتوح من السماوات السبع، ومن يخالف فالأراضين السبع في انتظاره كي يقضي بقية عمره بين جدرانها، وله أن يختار أي طبقة من طبقات الأرض كي تكون “مثواه” الأخير، كي “يعيش” أو يموت فيها ما بقي من حياته، إن كانت أصلاً حياة!

في البلاد التي كانت مسرحاً لبطولات العرب وفرسانهم، ومنطلقاً لفتوحات دقّت أبواب العالم القديم، وأنارت عتم الكون، صار العقاب على كتابة بضع كلمات على “تويتر” مثلاً السجن 35 سنة، حتى لو كانت المغرّدة امرأة، ونقول امرأة تحديداً، لأنّه كانت لها مكانة خاصة في تلك البلاد تحديداً، حتى في زمن الجاهلية الأولى. ولعلّ كثيرين منا يعلمون عن تلك الواقعة التي عقد فيها كفار قريش النيّة على اغتيال النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حين اختاروا من كلّ قبيلة رجلاً، حتى يتوزّع دمه على قبائل عدة، فتعجز قريش عن الأخذ بثأره، وهي وحيدة، فرابطوا عند باب داره طوال الليل بانتظار أن يخرج لصلاة الفجر. وبالطبع، كانوا قادرين على تسوّر منزل النبي صلى الله عليه وسلم، لكنّهم لم يفعلوا، ليس خشية منه، لكن ستراً لبنات الرسول، حتى إنّ أحدهم اقترح اقتحام بيت النبوّة، فرد عليه أبو جهل معنفاً: أتريد أن تقول العرب عنّا إنا تسوّرنا الحيطان وهتكنا ستر بنات محمد؟ وحدث أن غضب أبو جهل من أسماء بنت أبي بكر الصديق، فضربها على وجهها، فظلّ يتبعها راجياً إياها بألّا تخبر أحداً عن فعلته، قائلاً لها: خبئيها عنّي، خبئيها عني، قاصداً ألّا تفضحيني، حتى لا يقول الناس إني ضربت امرأة!

أما اليوم، فحدّث ولا حرج عن “ذكور” أنظمة التسلط والقهر وهم يجرجرون النساء من شعورهن، ويُمعنون في تعذيبهن، وسجنهن، وقهرهن، وتلك مفارقةٌ تبعث النفس على الانفجار كمداً وهمّاً وغمّاً، فهم إذ يفعلون هذا الفعل المشين، ترى قائلهم يتشدّق بأخلاق سادته ورفعة وسمو أخلاقه، وهو علج وضبع، تزكم الأنوف روائح أفعاله المنكرة.

ثقافة الخوف، في ممالك الخوف، هي العدو الأول للشعوب، ومقاومتها لا تقلّ أهمية عن مقاومة أهل فلسطين للاحتلال الصهيوني المجرم، فكلاهما عدوان لهذه الأمة، وخطر يهدّد حياتها.

هناك فرق كبير بين نظام يحظر على مواطنيه أن يتعاطفوا مع مجاهدي فلسطين الذين يُعتقل بعضهم بتهمة الانتماء لتنظيم إرهابي ونظام يترك لأهل معان، مثلاً، الحرية لتوزيع زيت الزيتون عن روح الشهيد عدي التميمي، ويرى أهالي الطفيلة يرسلون تحاياهم على طريقتهم إلى أهل فلسطين، فلا يكتم أصواتهم، أو يعتقلهم بتهمة التعاطف مع “إرهابيين”.

مجرّد مقارنة تكاد تصيب المراقب بالدوار، فكيف دارت الدنيا كل هذه “الدورات” حتى صار التعاطف مع فلسطين جريمة؟ بل صار نهش لحمها والتشنيع على أهلها عملاً مندوباً ومطلوباً في وسائل إعلام رسمية تموّل من خزائن خيرات الأمة، وليست تهم “التخابر مع قطر وحماس” (!) بعيدة عن هذه الكوميديا السوداء.

ولعلّ من جنس تلك المقارنات بين ما تراه اليوم من شباب فلسطين وشاباتها وما تراه من بعض شباب بلاد العرب وشاباتها، ففي فلسطين يحلم الشاب العشريني بنيل الشهادة في سبيل الله، فيما يحلم من هم في مثل سنه في ممالك الخوف والقمع والإرهاب بأن يصبح أو تصبح من “صنّاع محتوى” هابط على “تيك توك” ضمن جيش عرمرم ممن يلهثون وراء اللايكات والمتابعين، كما يلهث شباب فلسطين وراء النيْل من محتليهم بمفك أو سكين أو حجر، إن عزّت الرصاصة! صحيحٌ هي صعبة وثقيلة على النفس، لكنّها واقعٌ موجعٌ، فالاحتلال المجرم بإرهابه يحرس الشعور الوطني في الجيل الفلسطيني الصاعد، فيما يجري إغراق هذا الجيل في ممالك الخوف بالترفيه، كي ينسوا أسماءهم وأسماء أسلافهم العظام الذين فتحوا الدنيا وملأوها بالنور!

ومن تلك المقارنات الموجعة أيضاً أنّك إن أتيت على ذكر مخازي ما تفعله السلطة في بلاد القهر والعسف، سرعان ما تحاكم بتهمة “المسّ بدولة شقيقة أو صديقة”، أما حينما يجهل سفهاء تلك الدولة الشقيقة على فلسطين وجهاد أهلها ويشتم كرام أهلها ويرمون بالإرهاب والتطرّف، لا تجد من يحاسب أولئك السفهاء، بل ترتفع مكانتهم وربما يكافأون على وضاعتهم وفحش كلامهم، وترفع منزلتهم.

إلى حد كبير، فقد النظام السياسي العربي “الشرعيات” التي قام عليها، على نحو تدريجي، سواء بالانقلاب عليها، أو التنكّر لها، عبر تعديلاتٍ دستوريةٍ عميقةٍ طاولت أساسيات النظام السياسي، أو بانتهاج سياساتٍ تناقض هذه الأساسيات، يبدو أن غالبية الدول العربية بدأت تعود إلى مرحلة ما قبل الدولة.. حيث تتآكل قوة القانون، وتتهمّش سلطة الأخلاق والقيم والحراك الاجتماعي في بلاد العرب، حين تنفجر فقاعة الخوف، ينذر بقرب انفجار شعبي عارم تغذّيه سياسات حكومية فظّة تضغط على جروح المواطن لا معالجتها، وقهره، لثقتها أن شرعيتها تأخذها من الدعم الخارجي، لا من بيئة محلية حاضنة… نحن اليوم في انتظار الانفجار الكبير.

مقالات ذات صلة