من أنتم؟

الاذاعي/ شريف عبد الوهاب .

لطالما كنا نعتقد أن قسوة الغابات هي الأشد فتكًا، مشاهد افتراس الحيوانات لبعضها البعض كانت تصيبنا بالذعر، كنا نحمد الله أننا نعيش في مجتمعات إنسانية يحكمها الضمير والرحمة، حيث يعطف القوي على الضعيف، ويسود القانون الذي يحمي الجميع. كنا نردد دائمًا: “نحن لسنا في غابة!” لأننا كنا نؤمن أن الغابة تعني القوة الغاشمة والبقاء للأقوى دون اعتبار لأي قيم أو مشاعر. لكن هل ما زلنا نستحق هذا الامتياز الأخلاقي؟

لقد تغيرت الصورة، ولم تعد تلك الجملة تحمل معناها القديم. فاليوم، أصبح العالم أشد وحشيةً من أعتى الغابات، وتحول البشر إلى كائنات بلا رحمة أو ضمير، يقتلون بلا سبب، يدمرون بلا مبرر، ويعيثون في الأرض فسادًا باسم القوة والسلطة. فما نشاهده اليوم في غزة من مذابح وقتل وتدمير ممنهج، ليس مجرد حرب، بل هو وحشية خالصة لا هدف لها إلا إبادة شعب بأكمله.

في تلك اللحظة المروعة، ارتفعت أصوات وحوش الغابات مستنكرةً ما يحدث، صرخت الأسود والنمور والفهود وقالت: “لا تشبهونا بهؤلاء! نحن لا نفعل هذا، لا نستطيع أن نرتكب مثل هذه الفظائع بحق أهل غزة.”

وحوش الغابة لها قوانينها، وهي لا تقتل إلا بدافع البقاء، هي تهاجم فرائسها من أجل الطعام، وتقتل فقط لتستمر في الحياة. أما الإنسان فقد تجاوز كل الحدود، لديه من الموارد ما يكفيه ويزيد، ورغم ذلك، يقتل الأطفال والنساء والشيوخ دون أدنى رحمة. لم يعد القتل وسيلةً للبقاء، بل تحول إلى غاية بحد ذاتها، إلى استعراض همجي للقوة والوحشية.

حتى الشياطين وقفت مشدوهة أمام هذه الجرائم، صرخ إبليس قائلاً: “لقد صنعتُ الشر، لكنني لم أتصور يومًا أن يصل الإنسان إلى هذا الحد من الدموية والوحشية.” حتى الشيطان ذاته تبرأ منهم، واعترف بأنه يستحي من أفعالهم القذرة.

إذن، من أنتم؟ أأنتم بشر أم شياطين؟ أم أنكم كائنات جديدة لم يعرفها التاريخ من قبل؟

إن المشهد في غزة يكشف حقيقة مرعبة عن البشر، تلك الكائنات التي لطالما افتخرت بإنسانيتها، فإذا بها تتحول إلى ما هو أسوأ من الوحوش. أصبح القتل من أجل القتل، والهدم من أجل الهدم، والتعذيب من أجل التعذيب. ما يحدث هناك ليس مجرد صراع سياسي أو عسكري، بل هو تجرد كامل من الإنسانية، هو انهيار لكل القيم التي اعتقدنا يومًا أنها تميزنا عن باقي الكائنات.

في قلب هذا الجحيم، لا مكان للمنطق، لا مكان للرحمة، لا مكان حتى للخوف. إنهم يقتلون بدمٍ بارد، يقصفون منازل الآمنين، يحرقون المدارس، ويدمرون المستشفيات، ثم يتحدثون عن حقوق الإنسان والعدالة! أي عدالةٍ هذه التي تسمح بقتل طفلٍ لمجرد أنه ولد في المكان الخطأ؟ أي إنسانيةٍ هذه التي تبرر إبادة عائلة بأكملها في لحظة واحدة؟

الغابة، بكل وحشيتها، أكثر عدلًا مما يحدث اليوم في غزة. ففي الغابة، الحيوان لا يقتل إلا ليعيش، لا يهاجم إلا عندما يجوع، لا يسرف في العنف ولا يتلذذ به، أما البشر فقد تحولوا إلى كائنات تقتات على الألم، تستمتع بالدمار، وتبحث عن ضحايا جديدة كل يوم.

الضمير الإنساني لم يعد موجودًا، والمجتمع الدولي لم يعد أكثر من مسرح للرياء والنفاق. بيانات الاستنكار والتنديد لم تعد تكفي، والتاريخ لن يغفر للصامتين كما لن يغفر للقتلة.

إن لم تكن هذه جريمةً ضد الإنسانية، فما هي الجريمة إذن؟ وإن لم يكن هذا التطهير العرقي، فما هو التطهير العرقي إذن؟

ربما كنا نعتقد أننا أرقى من الحيوانات، لكن الحقيقة أن وحوش الغابة تملك من الشرف ما لم يعد البشر يملكونه. إنها لا تقتل إلا حين تجوع، ولا تهاجم إلا حين تضطر. أما الإنسان، فقد تحول إلى وحشٍ لا يشبع، إلى قاتلٍ بلا ضمير، إلى شيطانٍ يرتدي قناع البشرية.

من أنتم؟ سؤال سيظل يلاحقكم، وستلاحقكم معه أرواح الأبرياء، صرخات الأمهات، دموع الأطفال، وركام البيوت المدمرة. لن ينساكم التاريخ، ولن يغفر لكم المستقبل. أما نحن، فنحن أبناء غزة، نحن أصحاب الأرض، نحن الذين سنبقى، بينما أنتم، إلى أين ستهربون من لعنة الإنسانية؟
شريف عبد الوهاب
رئيس الشعبة العامة للاذاعيين العرب
رئيس الشبكة الثقافية بالإذاعة المصرية الاسبق

مقالات ذات صلة