أيّ مستقبل لنصف سكان السودان من الأطفال؟

يقظان التقي

حرير- دعت منظمة الأمم المتحدة إلى بذل مزيد من الجهود لحماية 250 مليون طفل يعيشون في بلدان ومناطق متأثّرة بالنزاعات وخرائب الحرب، وتعزيز التضامن الإنساني في المكان كما في الزمان، ما يشكّل مهمتها منذ 50 عاماً في حماية الأجيال من ويلات الصراعات الدموية بين الأمم، ومعارك تمزّق الشعوب داخل الدولة الواحدة، وتستدعي أشكالاً أخرى من العنف ضد أمل الكائن البشري ومستقبله. أخطار تمسّ في العمق المجهودات الحقوقية في العالم، فتضرب مصداقية الخطاب الدولي عن حقوق الإنسان حين يفشل في حماية الأطفال والمدنيين. وعلى الرغم من الكمّ الهائل من الاتفاقيات والمواثيق التي ترعى حقوق الأجيال المقبلة، فإن عدد الأطفال ضحايا العدوان والعنف في تزايد، ما يؤكّد الفجوة القائمة بين الحقوق والتشريعات، وبين الواقع والجدوى، مع ضعف الجهود المبذولة من أجل المساهمة الفعلية في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين.

النزاعات الأهلية العربية واحد من تلك الاختلالات الرئيسة في عمل المنظومة، حين تنتج ذاتها، وأحياناً بأشكال متماثلة روتينية/ متكرّرة بالتعامل مع الأزمات، ولا سيما ما دون الوطني الذي أصبح سمة المرحلة مع انحسار السلطة المركزية وغياب الإرادة السياسية التي لا تتصرّف بوصفها سلطة وطنية، وتعمل على تحويل نفسها إلى عصبية أخرى بين البنى القائمة في صراع مفتوح. ذلك ما يتهدّد المجتمع السوداني الذي يمثل بنية تحتية ممتازة لإنتاج الأحداث وتزويدها بالطاقة الضرورية للاشتعال، فتستعصي الحلول في مجتمع أقليات وأقوام وبلا إجماع سياسي. ما يعيد إنتاج شروط الإخفاق نفسها مع مليشيات مسلحة أو غيرها، لا تقوم إلا لحاجاتٍ تقع خارج المصلحة الوطنية، ولا تخدم فيها إلا نفسها وأهدافاً مؤقتة والقيام بأعمال غير قانونية (قوات الدعم السريع)، وبين العسكر النظامي غير الراغب في التخلّي عن التنظيمات المسلحة والسلطة، فيجيز للمواطنين حمل السلاح. تزداد الأوضاع سوءاً، مع عجز المجتمع الدولي عن إيقاف القتال العبثي وحماية أرواح المدنيين وممتلكاتهم. يدفع المدنيون الثمن، بعد أن ماطلوا في انتظار بلا نهاية لتسليم الجيش السلطة. انتظار لا يقطعه إلا الموت، وبأعداد كبيرة بين الهدنة والأخرى.

أصبح الوضع القدر اليومي الحزين المدّخر لا يطاق مع سقوط مئات أطفالٍ قتلوا، ومع آلاف آخرين أصيبوا بجروح. فرّ مئات الآلاف من منازلهم في ثالث أضخم بلد في أفريقيا، يقدر عدد سكانه بأكثر من 40 مليون نسمة، ويشكّل فيه عدد الأطفال نصف العدد الإجمالي للسكان. وفي مقاس الحروب الأهلية الأخرى في لبنان، اليمن، سورية، ليبيا، لا شيء خارج هذا التشخيص (التراث) لحملة السلاح.

يغيب بشكل واضح الشعب السوداني، ويغيب المنطق الذي يتحكّم بتصرفات جنرالين، لا يملكان مؤهلاتٍ للانتقال إلى العمل السياسي. الأطفال في السودان هم الأكثر هشاشة وسط أجواء من العنف غير المحتملة. هم الذين يتحمّلون وطأة النزاع، يموتون، مستقبلهم يسرق منهم. ثمّة قلق بالغ إزاء تاثير النزاع في عدم تلقّيهم الخدمات الصحة والرعاية. تؤكّد منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (يونيسف) ومنظمة “وورد فيجين” أن ملايين من الفتيان والفتيات السودانيات يحتاجون مساعدات إنسانية فورية وحماية، ويجب بذل كل جهد لإبعادهم عن الأذى الذي يحدق بهم من النزوح والانتهاكات الجنسية والاستخدام من الجماعات المسلحة، وإبعادهم عن مرمى النيران، والتمكّن من النمو في بيئةٍ يسودها السلام. وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، تاثرت الرعاية الصحية بشدّة بالعنف، خصوصاً في العاصمة الخرطوم، ومنطقة غرب دارفور، على الرغم من الكلمات الجميلة التي يردّدها عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي)، عن “الارتباط بالمبادئ والتطلعات الإنسانية”، فتسقط إزاء السرعة التي يتجدّد بها القتال بين المقاتلين المتمركزين في المناطق السكنية مع ضجيج القذائف والغبار والجدران التي تنهار وعمليات الإخلاء من منطقةٍ إلى أخرى، والشركات الأمنية تلعب على محنة الناس العالقين في العاصمة، لفرض أسعار باهظة مقابل النقل من الخرطوم إلى بورتسودان على البحرالأحمر. فيما تتعرّض منازل الناس والبنوك والمصانع والمحال التجارية للنهب مع رؤية أكوام من الجثث في أثناء مغادرة الناس مناطقهم. أزمة لها عواقب وخيمة على المنطقة والجوار. ينظر إلى المجتمع الدولي على أنه غير قادر على ممارسة نفوذه على المقاتلين، فيما تمكّن من حملهم على الموافقة على تقاسم السلطة مع المدنيين عام 2019 (لو وصلوا إلى السلطة لعرفوا طبيعة النظام الذي صنع ضماناتٍ لبقائه، من ذلك الحفاظ على المليشيا). وليس لدى جيران السودان ما يقدّمونه إلى النازحين. دول الجوار إما تعاني من الجفاف أو تعاني من صراعات مسلحة أو تواجه الفقر.

يعيش 18 مليون نسمة، أي أكثر من ثلث سكان السودان، في حالة من الجوع والفقر المدقع بسبب الجفاف والحروب والصراعات المحلية (مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية OCHA). وضع إنساني قاسٍ في واحدة من أفقر الاقتصاديات في العالم على مساحة 1.8 مليون كيلومتر مربع (95% من كتلته النقدية خارج النظام المصرفي). كثير من توقّعات أمن الإنسان تتعلق بالدولة وبالمنظّمات غير الحكومية وبالنظام الدولي ككل في المهمة التي يجب أن يضعها نصب عينيه في المجالين الاقتصادي والبيئي والعمليات الاجتماعية، وحيث تراجعت العملية السياسية. لم تنجح أدوات تعبير الشعب السوداني بالحصول على تأييد الآخرين. لم تؤخذ كفكرة جاذبة من النظام الدولي. تبيّن أن المجتمع السوداني لا يلعب إلا دوراً ثانوياً، والحراك السلمي لم يساهم في تحديد الفضاء السياسي موضوعاً مميّزاً للأنثروبولوجيا الأفريقية في ثورتها من أجل العدالة والحرية والديمقراطية. لن يكون بالإمكان إقامة السلام دون إطار قانوني ومؤسّسي. إنها المجتمعات التي تترجم علاقاتها السياسية بتعابير غير هيكلية، وبضعف شديد في تمايز بناها ووظائفها الاجتماعية والسياسية، ولا تعبئ مواردها الخاصة، تبدّدها في صراعاتها السياسية. وحده الجيش كان الفئة الأكثر تنظيماً. عزّز سلطته والمليشيات، وأحدهما يستدعي الآخر. كأن المجتمع ليس نتاج الأفراد الذين يشكّلونه، بالعكس هو نظام من الحتميات التاريخية والإلزامات العسكرتارية التي تقولبه كظاهرة ماكرو – اجتماعية في حدود المشكلة في السودان وفي غير مكان.

أوضاع السودان خارج السيطرة، ومساعي اتفاق جدّة تفسيراً لما يجري غير موثوقة. ما يجري يوحي أن الحرية شيء مرعب، إطار متخلف في قصّ الحوادث، وتحوّلها إلى أزماتٍ ومواجهاتٍ عنيفة، مدعاة لتملص المجتمع الدولي من المسؤولية الضخمة التي تقع على كاهله. يتعلق هذا أولاً بكل ما يشكّل إطار الحياة لأطفال الغد، ورسائل ترفض تولد الصراعات، عدوى الضغائن، وخطابات الكراهية والاقتتال والإقصاء للنقاشات السياسية والمبادرات. من حق السودان أن يؤسّس للدولة الوطنية والعدالة. سيحصد أطفاله ثمار حمايتهم، ومساءلة قوية وصارمة تقطع الطريق أمام ثغرات الإفلات من العقاب، ومساهمات تنموية تستحقّ الانتباه أكثر مما يتيح للديمقراطية والتنمية التقدّم في آن واحد.

مقالات ذات صلة