القوّة الناعمة للاستبداد

حلمي الأسمر

حرير- لا يستطيع أي دكتاتور، مهما أوتي من قوّة، أن يحكم بلدا بمفرده، فهو يحتاج منظومة كاملة من “الدكتاتورات” الصغيرة لحمايته أولا من “الرعاع” الذين هم في الأصل رعيّته المكلّف برعايتها، وثانيا لقهر هذه الرعية وإخضاعها لأهوائه وإبقائها في حالة تخدير “وطني” باعتباره “المنحة الإلهية” التي منّ الله بها على عبيده، وأبسط فريةٍ يسوقها هذا الدكتاتور على ألسنة “قوّته الناعمة” أنه لا بديل له، فهو خُلق من قالبٍ معيّن، وبعد الخلق تم كسر القالب، تعالى الله وتنزّه عن هذه الهرطقة. أما لماذا يصبح التخدير “وطنيا” فلأن الخضوع لهذا الدكتاتور المنزّه قانونيا و”شرعيا” عن أي مساءلة عمل يندرج تحت بند الولاء للوطن، والانتماء لترابه الطهور. وبخلاف ذلك، يصبح أي “خروج” على هذا الحاكم مدعاةً لغضب الله جلّت قدرته، وخيانة للوطن، وزندقة في الدين، وشقّا لعصا الطاعة، وعمالةً وتنفيذا لأجندات خارجية، و.. و.. وقائمة أخرى كبيرة من الموبقات مما تحفل به قوانين (وتشريعات) الطغيان وزبانيته.

في الإرث الإسلامي، فقها وسيرة وتاريخا، لم يكن الحاكم ظلا للإله، ولا ناطقا باسمه، ولا مندوبا عن السماء، للتجبّر بالعباد. صحيحٌ مرّت فتراتٌ سادت فيها منظومة “المُلك العضوض” لكن شيئا مما نراه في الحقبة العاصرة لم يحصل في أيٍّ من مراحل الملك العضوض حتى في أشد الحقب حلكة، فلم نسمع أو نقرأ عن حاكم قصف شعبه بالكيماوي أو البراميل المتفجّرة، أو أباد مدينة لأنها عارضته، أو جوّع شعبا وأرهقه بأطنانٍ من الضرائب، أو رهن بلاده للأجنبي، أو وادع عدوّا لا شك في عداوته، بل سلّمه مقدرات البلاد، وتعاون معه “أمنيا” لإحكام السيطرة على شعبه، أو باع أصول (ومقدّرات) البلاد التي يحكمها وبدّدها على رفاهيته أو هرّب أموالها إلى الخارج.

ما تعيشه بلاد العرب وكثير من الأمم المسلمة لا مثيل له في ما مضى من حقب، ولعل ملايين من أبناء هذه البلاد تشغلهم هذه المعضلة، ويتطلّعون إلى اليوم الذي “تنفكّ” فيه “عقدتهم”، فما يعانونه يجلّ عن الوصف، فهم في ذيل قافلة الأمم التي تداعت عليهم كما يتداعى الأَكَلة على قصعتهم، ولعل أكثر ما يغيظ هذه الملايين أن تجد جزءا من أبناء جلدتها، وهم أقاربها من إخوة وأبناء عمومة وعشيرة، سوطا في يد الطغاة، يُلهبون به ظهور الناس، فهو اتّخذ من هؤلاء “قوة ناعمة” لإخضاع البقية، فاستأجروا الكاتب وعالم الدين والإعلامي وصاحب المهنة والمفكّر والاقتصادي وغيرهم، كي يكون “نخبة” الحكم المكلفة بتسويق الظلم والعسف، وتزيين الفظاعات التي يرتكبها الحاكم وزبانيته، ووضعها في صورة “الإنجاز الوطني”.

لا يقلّ خطر النخبة المستأجرة فداحة عن حملة السلاح المكلفين بحماية الدكتاتور، فهم مكلّفون ببيع الوهم باعتباره من نعم الحاكم، تحت بند الانتماء للوطن، وهم يستهدفون العقل الجمعي للجمهور ووعيه ولاوعيه أيضا، فيزرعون في خلايا مخّه “قناعات” تصبح مع تعاقب الأجيال “موروثات جينية”، تجعل من الإنسان الحرّ في أصله مدمنا على العبودية، خوفا من منظومة البطش وطمعا في أعطيات الباطش، وهكذا تبقى البلاد والعباد في حالة استلابٍ وغيابِ وتغييبٍ قسري.

أول ما يجب فعله في أجندة أي حركة تغيير أو تحرير أن تعتني بالعقول و”تنظيفها” مما زرعته آلة الحكم من أضغاث أحلام وأوهام وأكاذيب وافتراءات، لعلّ أهمها أن حبّ الحاكم هو حبّ للوطن، كأن الحاكم هو الوطن، والوطن هو الحاكم (الدولة أنا وأنا الدولة) وتلك مهمّة تلك النخب البديلة التي يتعيّن على من يريد التغيير إنتاجها لتقف في مواجهة النخب المستأجرة، التي تبيع ما ينتجه الحاكم من أوهام وافتراءات على الحقيقة.

وأظن أن أخطر تلك النخب المستأجرة تلك التي تتّخذ من الدين متّكأ لتسويغ الخضوع للظلم وتشريعه واستمرائه باعتباره نوعا من الطاعة لله ولرسوله. والألعن أن يصبح الخضوع “صبرا” مستحبّا يُؤجر المرء عليه، على اعتبار أن الصابرين يوفون أجرهم من غير حساب، وهنا خلط عجيب بين صبر وصبر، فالصبر على الابتلاء والشدائد يختلف عن الصبر على الخنوع والذلّ وطأطأة الرؤوس للظلم، وتسخير الظهور لكل من يركبها، وهي ظهور كرّمها الله ولا تنحني إلا لخالقها، لا لمن يستعبدها ويهينها ويجعل منها سلّما يطأها بنعاله للصعود إلى ملذاته ورفاهيته.

وتلي نخبة الإعلام نخبة “المستشيخين” في الخطورة، فهم القوة الضاربة لغسل العقول وتسويق حكمة القائد الملهم، المنزّه عن كل خطأ، فهو مهما فعل في قاموس هؤلاء الضالّين المضلّلين، مبدع وحكيم وبعيد نظر وحانٍ على شعبه، ومحبّ لهم، ووطني، وحريص على “اللّحمة الوطنية”، ولفرط حرصه صار الشعب يحلم برؤية اللحمة في المنام.

إن أرادت الأمّة الصعود من مستنقعها، فلا مناص من ركل كل ما أنتجته “القوّة الناعمة” للحكم، وإعادة بناء محتوى عقلي جديد، ينبني على قاعدة: متى استعبدُتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.

مقالات ذات صلة