المهزومون إذ يتفاخرون بنجاحات غيرهم!

حسان الأسود

حرير- شغلت انتخابات الرئاسة التركية أجزاءً مهمّة من العالم، فقد كان تفاعل الحكومات الغربيّة معها عمومًا من أميركا إلى كندا فأوروبا واضحًا، كذلك اهتمّ بها الروس والإيرانيون ودول الجوار القريب والبعيد. يهتم هذا المقال بتفاعل الشعوب العربية، وخصوصا منها الشعب السوري، مع هذه الانتخابات، وبالتحديد الرئاسية منها. مقاربة التفاعل السياسي الشعبي العربي مع الانتخابات التركية، من باب المقارنة مع تفاعل الشعوب العربية في بلدانها ذاتها مع الاستحقاقات الانتخابية على مختلف مستوياتها، توفّرُ مدخلًا واسعًا لقياس أسباب ذلك الاهتمام هنا والتجاهل هناك ونتائجهما. من الواضح بداية وجود انقسامٍ لا يمكن إنكاره بين تيارين رئيسيين في هذا المجال: أولهما، وهو الذي ينطلق من خلفيةٍ إسلامية، مناصر لأردوغان شخصيًا بالدرجة الأولى ولحزب العدالة والتنمية بالدرجة الثانية. ثانيهما، وهو منطلقٌ من خلفيات قومية متعدّدة، وهو معارض لأردوغان ولحزبه وللأتراك عمومًا. وهناك تيارٌ ثالثٌ هامشي نوعًا ما يمكن تسميته التيار الحيادي إن صحّ التعبير، وهو الذي يناصر التجربة الديمقراطية للأتراك بالدرجة الأولى. وبالدرجة الثانية العودة التركية إلى التوازن بين طبيعة المجتمع الإسلامية المتدينة تاريخيًا وموجبات احترام أسس الدولة التركية الحديثة التي قامت على ركيزة صلبة من العلمانية المتشدّدة التي حاولت إقصاء الدين من المجتمع لا من مؤسّسات الدولة فحسب.

ينطلق أنصار التيار الإسلامي من حنين إلى ماضٍ يرونه جميلًا لا يزال خيالُه يداعبُ أفئدتهم. ويرى قسمٌ من هؤلاء، عن عقيدةٍ راسخةٍ، أنّ الرابطة الإسلامية أقوى الروابط، وهي التي تجعل من القائد الذي يَلُمُّ شمل الأمّة جديرًا بالاتّباع والاقتداء أيًا كانت قوميته، فلمهاتير محمد ورجب طيب أردوغان مكانة خاصّة عند هؤلاء، ولولا أنّ الإرث الذكوري طاغٍ في المخيال السياسي والشعبي العربي لكانت حليمة يعقوب ثالثتهما. لدى هذا القسم النشط في الفضاء العمومي احترامٌ كبيرٌ لفكرة القائد الفرد، ولا عجب في ذلك، فالتاريخ الإسلامي كما تاريخ كلّ الشعوب كُتب قبل مرحلة الدولة الحديثة باسم الحكّام، فلا فرق بالتسمية بين خليفة وأميرٍ للمؤمنين أو بين سلطانٍ وملك أو خلافها من الألقاب، فالجوهر واحدٌ، وعندما يتّسع المفهوم فإنه يشمل أسرًا لا شعوبًا، فيُقال دولة الأمويين أو الأيوبيين أو غيرهم. بقيّة أنصار التيار الإسلامي، وهم الغالبية العظمى من الشعوب العربية، ترى الأمور ببساطةٍ أوضح، فالإسلام جزء من تركيبتها الثقافية، وظهور أيّ قائد مسلم يعني، بشكل تلقائي، رفعة الإسلام وبالتالي يحقق جزءًا من أحلامهم ويرفع من اعتبارهم أمام ذواتهم.

شهد المتابعون شغف العجائز والكهول كما حماسة النساء والرجال والشابات والشباب لدعم أردوغان، والدعاء له علانية وفي كل المحافل. قد يكون من الصعب الحكم على ما في القلوب، لكن المرءُ يكاد يقول بثقّة إنّ صلواتٍ كثيرة اختتمها أصحابها وصاحباتها، وخصوصا منهم كثير السوريين، بالتضرّع إلى الله بفوزه. ليس هذا بالحدث العرضي، فخيبة الأمل من القادة العرب الذين يُفترض بهم أن يكونوا أقرب إلى روح الإسلام الراكز في ضمير الناس العاديين، وخيبة الأمل من الإسلام السياسي الذي فرّخ تنظيماتٍ إرهابية ظلامية لم يعرف لها التاريخ مثيلًا من قبل، كلها جعلت الأمل معقودًا على شخصِ ساحرِ الكلمات ومالكٍ مفاتيحها. هنا تفريغٌ واضحٌ لعقدة النقص تجاه الذات وسحبٌ بالآمال إلى خارج حدود الجغرافيا الوطنية لربطها من خلال أواصر اللُحمة الدينية بمن يتوسّم الناسُ منه قيادتهم إلى طريق الخلاص.

أما أنصار التيار الثاني، أي المعارضون لأردوغان أو المعادون له، فيختلفون ما بين متطرّفين أو متشدّدين من الكرد أو العرب يرون في المشروع القومي التركي منافسًا بل خصمًا أو حتى عدوًّا وجوديًا، وما بين علمانيين صلبين يرون في نهجه ونهج حزبه انحرافًا عن نهج أتاتورك وانتكاسةً ورجوعًا نحو العثمانية بثوبٍ جديد. لا يُخفي أنصار كلا المذهبين تبرّمهم من نجاح أردوغان والتحالف الذي يقوده حزبه، وهم، في كل الأحوال، محقّون بذلك باعتبار أنّ تركيا انتقلت خطواتٍ كبيرة وواسعة إلى الأمام منذ تسلّم حزب العدالة والتنمية السلطة، بينما هم ومشاريعهم يراوحون في أماكنهم، لا بل وكثير من بلدانهم عادت القهقرى عقودًا إلى الوراء.

أردوغان صاحب كاريزما، والأتراك فضلوا، حسب نتائج الانتخابات، إعطاء النهج الجديد في تعريف الهويّة التركية فرصة أطول قبل الحكم عليه نهائيًا، واستطاع أردوغان مدّ الجسور التركية خارج الإقليم بعيدًا باتجاه ما كان يومًا جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، لكنّ ذلك كلّه لم يسعفه في ترسيم نفسه زعيمًا إسلاميًا متوّجًا على عرشه، لقد وقفت في وجهه دولٌ وازنة وأنظمة تتمتّع بأوراق قوّة كبيرة استطاعت من خلالها إفشال مشروع الإسلام السياسي الذي كان يتزعّمه. هذا ما كان يطمح له قسمٌ وازنٌ من العلمانيين والقوميين الأتراك من الانتخابات أخيرا، أي إسقاط المشروع نهائيّا ودفنه مع صاحبه إلى الأبد، وهو ذاته ما تمنّاه أضرابهم من دول الجوار القريب والبعيد، لكنهم جميعًا أصيبوا بخيبة أملٍ شديدةٍ تركت في حلوقهم غصّةً أمرّ من العلقم.

يقول المثل: “تتفاخرُ القَرْعَاءُ بجدائل ابنة خالتها”، وهو ينطبق على أنصار الفريق الأول بجدارة، فهؤلاء يجدون عزاءهم بنجاح أردوغان وهو يكفيهم حسرة الفشل في دولهم جزئيًا. كذلك يقول المثل الحوراني الدارج “الفاردة وصلت أم قيس والعوراء بتتكحّل”، وهو ما ينطبق على أنصار الفريق الثاني الذي لا يزال أغلب أهله يلهثون وراء الأيديولوجيا والتنظير، تاركين ساحات العمل للخصوم. وبغض النظر عن بعض جوانب العنصرية المتزايدة في المجتمع التركي في مواجهة الأجانب، وخصوصا السوريين منهم، والذي هو شأن كل الأيديولوجيات في مراحل ترسيخ أقدامها، فإن التعصّب عند الطرف المقابل يجعل من الوصول إلى تسوياتٍ للعيش بسلام في المنطقة بعيد المنال حتى إشعار بعيد، كما أنّ الرخاوة عند بعض أعضاء هذا الطرف تؤدّي إلى ترك العمل والغرق في الأحلام. ويبقى في النهاية لكلّ قرعاء ابنة خالة تتفاخر بجدائلها ولكلّ مهزومٍ مثالٌ يحمل عنه أعباء الهزيمة، كما يبقى لكلّ عوراء مرآة تتجمّل أمامها بينما العروس وصلت إلى بيتها الجديد وبدأت مسيرة حياة مختلفة.

 

مقالات ذات صلة