ماذا لو اندلعت الحرب بين روسيا وأوروبا؟

صادق الطائي

حرير- يصعب اليوم تخيّل سؤال أشد إلحاحا على العقل الأوروبي من سؤال الحرب. فمع امتداد الصراع الروسي ـ الأوكراني، والفشل الواضح لمحاولات إدارة ترامب في ايجاد حلول حقيقية لإيقاف الحرب، وتآكل خطوط التماس، وتزايد الاختبارات الروسية لقدرة القارة على الردع، بات الحديث عن مواجهة مباشرة بين روسيا وأوروبا ينتقل تدريجيا من هوامش التحليل إلى قلب النقاش العام.

ولعل أخطر ما يرافق هذا التصعيد، أنه يحدث في ظل إدراك متنامٍ داخل أوروبا بأن القارة لم تعد محصّنة، لا سياسيا ولا عسكريا، أمام سيناريو التصادم المفتوح. استطلاع رأي حديث كشف أن 51% من الأوروبيين يرون أن احتمال اندلاع حرب مع روسيا «مرتفع» أو «مرتفع جدًا»، وأن 69% يشككون في قدرة جيوشهم على الدفاع عن بلادهم، بما يشمل دولا مركزية كألمانيا وإيطاليا وبلجيكا، بينما بدت فرنسا أكثر ثقة بفضل ترسانتها النووية.

في المقابل، يطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إشارات متتابعة إلى أن موسكو «مستعدة للحرب إذا بدأتها أوروبا»، مؤكدا أن الهزيمة ستكون «ساحقة إلى درجة أنه لن يبقى من يمكن التفاوض معه»، وفي أكثر من مناسبة، يعيد بوتين التأكيد على أن روسيا لا تسعى إلى حرب، لكن إذا رأت أنها مستهدفة فسيتطور الوضع بسرعة تفوق قدرة الطرف الآخر على الاستدراك، وهو ما كرّره أيضا في تصريحات نقلتها صحافة روسية، عبر مقال للعميد ميخائيل خودارينوك، الذي شدد على أن أي مواجهة كبرى ستتحول سريعا إلى حرب تستخدم فيها «جميع أنواع الأسلحة، بما فيها النووية».

هذا المشهد المزدوج – قلق أوروبي داخلي، وتهديد روسي خارجي- يفتح الباب أمام تقييم واقعي لما قد تعنيه شرارة حرب بين الطرفين. فالتقديرات الأوروبية ليست متفائلة. أجهزة استخبارات في عدة عواصم تتحدث عن احتمال اندلاع مواجهة خلال «ألف يوم»، مستعيدةً درس عام 2022، حين لم يصدق أحد أن روسيا ستغزو أوكرانيا، قبل أن يحدث الغزو بالفعل. لكن هذه التقديرات ليست مجرد تحذيرات تقنية، بل تعبّر عن شعور عميق بأن أوروبا أمام مرحلة إعادة تشكل، تتراجع فيها مسلّمات الأمن الجماعي، التي حكمت علاقتها بروسيا لعقود.

على المستوى العسكري، يكشف ميزان القوى صورة متناقضة. من جهة، تستعرض روسيا قدراتها المتنامية، من توسّع الإنفاق العسكري إلى تسريع الإنتاج الحربي، وإطلاق أكبر حملة تجنيد منذ أكثر من عقد، حتى باتت تستهدف رفع عدد قواتها إلى 1.5 مليون جندي. كما تعمل على إنتاج آلاف الصواريخ ومئات الدبابات سنويا، وهو ما تعتبره تقارير غربية تحضيرا لمواجهة أوسع قد تمتد إلى ما بعد أوكرانيا بحلول نهاية العقد الجاري. من جهة أخرى، يشير تقدير الناتو إلى أن روسيا «تفتقر إلى الموارد والإمكانات»، لكسب حرب تقليدية واسعة ضد أوروبا الموحدة، وأن الحلف «لن يقف متفرجا» في حال تعرّضت أراضي أي من أعضائه لهجوم، وفق ما نقلته تصريحات مصدر رفيع للحلف. لكن هذه الأرقام وحدها لا تحسم طبيعة المواجهة المحتملة، فحتى لو بدا الناتو أقوى على الورق- بعدد جنوده ومخزونه من الطائرات والدبابات والسفن – إلا أن الواقع الميداني أكثر تعقيدا، حيث تعاني الدول الأوروبية من نقص في الذخائر، وتشظي صناعاتها العسكرية، وتعدد أنظمة التسليح بشكل يعرّقل سرعة التنسيق. لذلك يتحدث محللون عن أن التفوق الرقمي لا يساوي تفوقا عملياتيا، إذا اندلعت الحرب فجأة، خاصة في المناطق الحسّاسة مثل دول البلطيق، أو ممر سوفالكي، الذي يعتبره قادة عسكريون أوروبيون الأكثر عرضة لأي مناورة روسية خاطفة.

لم يكن موقف واشنطن في عهد دونالد ترامب بعيداً عن تعميق القلق الأوروبي. فعودة ترامب إلى البيت الأبيض أعادت طرح السؤال حول مدى التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن القارة، بعدما دافع مراراً عن فكرة تقليص أعباء أمريكا داخل الناتو، وألمح إلى أن الحماية الأمريكية ليست مجانية ولا مضمونة لمن لا يرفع إنفاقه العسكري. هذا الشعور الأوروبي بأن المظلّة الأطلسية قد لا تكون صلبة كما كانت، دفع عدداً من العواصم إلى الإسراع في زيادة ميزانيات الدفاع، لكنّه في الوقت نفسه خلق فراغاً استراتيجياً استغلّه الكرملين، لرفع سقف تهديداته. وتُظهر النقاشات داخل الناتو أن الأوروبيين يخشون اليوم أن أي تراجع في دور واشنطن لن يضعف الحلف فحسب، بل سيغيّر ميزان القوى جذرياً، إذ يمنح موسكو هامشاً أوسع للمناورة، ويعزز ثقتها بقدرتها على اختبار الخطوط الحمر الغربية. وبذلك، يصبح مستقبل الردع الأطلسي مرتبطاً بمدى صمود العلاقة عبر الأطلسي أمام نزعة ترامب الانعزالية.

في خضم هذه التوازنات المضطربة، ترصد مراكز البحوث الاستراتيجية الأوروبية ثلاثة مسارات رئيسية لمستقبل الصراع. أولها سيناريو «الحرب المطوّلة»، حيث يستمر النزاع في أوكرانيا من دون حسم، ويتحوّل إلى حالة من الجمود القابل للانفجار في أي لحظة، ما يؤدي إلى تزايد الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي، وتراجع قدرته على إدارة تحدياته الداخلية، مع انهيار شبه تام لآليات الأمن التعاوني في القارة وعودة أجواء «الخمس دقائق إلى منتصف الليل» النووية، أو ما يمكن تسميته يوم القيامة بسبب الحرب النووية. وثانيها «التصعيد الزاحف»، الذي يشهد أحداثا عسكرية متفرقة عند الهوامش، من سقوط صواريخ قرب الحدود إلى تحليق طائرات روسية داخل أجواء دول الناتو، من دون أن يتطور الأمر إلى حرب رسمية، لكن مع اتساع الانقسامات الأوروبية وتراجع دور الناتو كضامن جماعي. أما السيناريو الثالث، الأخطر بطبيعة الحال، فهو «التصعيد الهائل»، حيث تقدم روسيا على تهديد نووي أو هجوم واسع، ما يدفع الحلف إلى رد مباشر قد يشعل حربا كبرى تضع النظام الدولي بأسره على المحك. الحرب في أي من هذه السيناريوهات لن تكون مجرد مواجهة عسكرية. إنّها اختبار شامل لمفهوم أوروبا ذاته. فالقارة التي بنت سلامها على الاندماج الاقتصادي وتجاوز الحدود، تجد نفسها اليوم مضطرة للعودة إلى اعتبارات السيادة والاستعداد العسكري، وهي اعتبارات كانت ترى أنها ودّعتها نهائيا بعد الحرب الباردة. هذا التحوّل لم يعد صامتاً؛ بل يظهر اليوم في نقاشات داخلية، حيث تتساءل أصوات أوروبية عمّا إذا كانت الحكومات تستغل خطر روسيا لتعزيز مشاريع سياسية داخلية، أو لإعادة شرعنة سلطاتها المتآكلة، كما يحذر بعض الكتّاب من توظيف «الخطر الروسي» لقمع المعارضات، أو التشكيك بنتائج الانتخابات بدعوى التدخل الخارجي.. لكن بعيدا عن الحسابات السياسية، يبقى السؤال الجوهري: ما الذي قد يشعل الحرب؟

في الخطاب الروسي الرسمي، الجواب واضح: موسكو لن تبادر، لكنها سترد بقوة إذا رأت أن أوروبا بدأت الهجوم. أما في القراءة الغربية، فروسيا قوة توسعية تسعى لتكريس نفوذها بالقوة، ومن الخطأ افتراض أنها ستتوقف عند حدود أوكرانيا، إذا شعرت بفرصة لفرض وقائع جديدة. وبين الروايتين، يظل احتمال الخطأ في التقدير أكبر تهديد حقيقي، لأن الطريق إلى الحرب لا يمر بالضرورة عبر قرار معلن، بل قد يبدأ بانزلاق تكتيكي، أو هجوم سيبراني واسع، أو حادث حدودي يتطور بسرعة. اقتصاديا، ستكون الكلفة هائلة. تقديرات أولية تشير إلى أن حربا أوروبية ـ روسية قد تكلف القارة 1.5 تريليون دولار في عامها الأول، مع انهيار اقتصاديات دول البلطيق بنسبة تتجاوز 40%، وتراجع الإنتاج الأوروبي العام، وارتفاع الديون إلى مستويات غير مسبوقة، إضافة إلى هزات في الأسواق العالمية، لا تقل عن تلك التي تلت غزو أوكرانيا. وهذا يعني أن آثار الحرب ستطال المجتمعات الأوروبية حتى إذا بقيت العمليات العسكرية محصورة في مناطق محدودة. مع ذلك، لا يبدو أن أوروبا تمتلك رفاهية تجاهل الخطر. فالمحللون الأمنيون يشددون على أن منع الحرب لا يعني تجنب الاستعداد لها، بل إن تعزيز الدعم لأوكرانيا، ورفع الإنتاج العسكري الأوروبي، وتوحيد السياسات الدفاعية، كلها شروط لتفادي السيناريوهات الأكثر قتامة. إذ يرى خبراء أن روسيا لن تذهب إلى مفاوضات سلام حقيقية، إلا إذا شعرت بأنها عاجزة عن تحقيق مكاسب إضافية، وأن «هزيمتها في الميدان هي الطريق الوحيد لإجبارها على التفاوض».

في النهاية، السؤال ليس فقط «هل ستقع الحرب؟» بل «أي أوروبا ستواجهها إن وقعت؟». أوروبا المنقسمة والعاجزة ستدخلها مجبرة، أما أوروبا المستعدة والواضحة الهدف فقد تمنعها قبل أن تبدأ. بين هذين الخيارين يتحدد مستقبل القارة، وربما شكل النظام الدولي بأسره. والوقت، وفق معظم التقديرات، لا يعمل لصالح من يفضّل الانتظار.

مقالات ذات صلة