مسألتان تثيران القلق في انتخابات تركيا الباهرة

محمود الريماوي

حرير-  كم بلغ عدد من تابعوا على الشاشات في تركيا وخارجها مساء الأحد الماضي نتائج الانتخابات التركية؟ وكم بلغ عدد العرب والمسلمين الذين تابعوا هذا الحدث فائق الأهمية؟ لا إحصاءات بشأن ذلك. وبتجربة شخصية، تعرّض موقع وكالة أنباء الأناضول لضغط هائل من محاولات الدخول إليه لمتابعة النتائج، ما تعذر معه الوصول إليه. بينما أمكن الوصول إلى موقع مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون تي آر تي، غير أن “الجزيرة” قناةً وموقعاً إلكترونياً كانت أسبق في المتابعة، ومن خلال سبعة مراسلين ميدانيين على الأقل. يتمنّى المرء ألا يتأخّر فرز الصناديق يوم 28 مايو/ أيار الجاري في الجولة الثانية إلى الحادية عشرة من صباح اليوم التالي، بسبب فرز صناديق المقترعين في الخارج، والذي يتطلب آليةً تختلف عن المتبعة في فرز أصوات المقترعين في وطنهم.

لم يجنح إلى المبالغة من قال إن هذه الانتخابات هي الأشد أهمية في عالمنا بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. وذلك للدور التركي المتزايد في الإقليم وما يتعدّاه، وللشوط الذي قطعته بلاد الأناضول في التصنيع، وفي استثمار الموارد الطبيعية والبشرية، ولأن هذه الانتخابات تجري وفق أفضل المعايير الدولية، وهو ما يفسّر عدم وقوع تشويش يُذكر على سلاسة العملية باستثناء ما نُسب لأعضاء في منظمة الأمن والتعاون التي شاركت في مراقبة العملية الانتخابية، بأن وسائل الإعلام الرسمية لم تُعط مساحات متوازنة للمترشّحين، غير أن لغالبية الأوروبيين ميولهم ورغباتهم الصريحة في فوز مرشّح المعارضة، وهو ما عبّرت عنه حملة غير مسبوقة نعتت الرئيس المترشّح رجب طيب أردوغان بالديكتاتورية، إلى درجة أن منابر نافذة اشتكت من غرابة هذه الحملة كما فعلت مجلة نيوزويك يوم 17 مايو/ أيار الجاري.

ويقينا أن عشرات الملايين من العرب ومن المسلمين تابعوا هذه الانتخابات، وهم يرون فيها الصورة المأمول بها بل المحلوم بها في بلدانهم، حيث تُجرى انتخابات تشبه في الشكل، بعض الشيء، العملية الانتخابية. وقد انتابت هؤلاء المتابعين حالة تشبه النشوة والزهو، لأن بلداً مسلماً (بالمفهوم الحضاري) ينجح هذا النجاح الباهر في التمسّك بالخيار الانتخابي، وما يتصل به من حرّيات تعبير ومن منافسة سلمية، ومن احتكام إلى الإرادة الوطنية، فيما تتجنّد مؤسّسات الدولة للسهر على هذا الاستحقاق منذ بداية الترشّح إلى بدء الحملة الانتخابية وختامها، كي يمضي على أفضل صورة ممكنة. وهو ما أشاع جواً من الثقة الكبيرة بسلامة الإجراءات، وحفّز أكثر من 88% ممن يحقّ لهم الاقتراع على مباشرة هذا الحقّ، وهي من أعلى النسب المتحقّقة في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية. وتزداد أهمية إنجاز هذا الاستحقاق، بالنظر إلى أن البلاد قد عرفت قبل أقل من مائة يوم كارثة رهيبة تمثلت في زلازل 6 فبراير/ شباط التي أزهقت أرواح أكثر من 50 ألف ضحية، وعشرات آلالاف من المصابين، ودمرت آلاف البيوت والمباني والطرق والجسور، وقد أضيفت هذه الكارثة الطبيعية إلى حدثيْن آخريْن تركا آثارهما السلبية على الحياة في بلاد الأناضول، وهما وقوع جائحة كورونا، ونشوب الحرب في أوكرانيا. ومع ذلك، جرى تجاوز معظم الآثار السلبية لهذه الأحداث في وقتٍ قياسي.

وبموازاة هذه الحصيلة الإيجابية العالية، ثمّة ملاحظة تتعلق بواقع نافر شهدته هذه الانتخابات، فإلى جانب التركيز في الحملات الانتخابية على الهوية والاختلافات الثقافية، وعلى صورة البلاد والمجتمع التركي، على حساب الاهتمام بالبرامج الاقتصادية والاجتماعية، وذلك بعد مضي قرن على نشوء الدولة التركية الحديثة… إلى جانب ذلك، بدت الحملة على اللاجئين وبثّ أقصى درجات الكراهية ضدّهم وكأنها رياضة وطنية أو نشيد وطني لأحزاب عديدة مشاركة، إذ اختزلت هذه الحملة البرنامج الانتخابي لهذه الأحزاب، من غير أن يتبدّى وجود قانون أو أنظمة تضبط هذا الهيجان، وكذلك من غير تصنيفٍ لرافعي هذه الراية، ففي الدول الديمقراطية، يصنّف كارهو الأجانب واللاجئين ومن يبثون الكراهية العرقية على أنهم ينتمون ليمين شعبوي متطرّف، عدا عن تصنيفاتٍ أخرى أشد قسوة، وذلك من أجل فرز التيارات السياسية والحزبية والاجتماعية وتصنيفها حسب أجنداتها وسلوكها، وليس، بطبيعة الحال، لغايات هجائية محضة. كما تتبرّأ الدول والقوى السياسية من هذه الموجات المتطرّفة مثلما هو الحال في بلدٍ مثل ألمانيا.

في هذا البلد الأوروبي، والذي يبلغ تعداد سكانه 84 مليون نسمة، وبما يعادل عدد سكان تركيا، هناك نحو 12 مليون نسمة من المهاجرين والأجانب واللاجئين، وأكثر من ربع هؤلاء من الأتراك أو من ذوي الأصول التركية جزئياً أو كلياً. وعلى امتداد نحو ثلاثة عقود، ومنذ اتحاد شطري ألمانيا، عانى الأتراك هناك الأمرّين من موجة عنصرية متفاقمة، ومن مختلف أشكال التمييز والكراهية. وهو ما يثير على الدوام موجة من الاحتجاجات المُحِقّة الرسمية والأهلية التركية، ضد ما يتعرّض له أبناء جلدتهم في بلاد الراين. ومن المصادفات أن عدد الأتراك في ألمانيا يضاهي عدد اللاجئين السوريين في تركيا (ثلاثة ملايين ونصف مليون نسمة). وهناك بعض الفروق في ظروف انتقال وفي طبيعة إقامة كل من الأتراك في ألمانيا والسوريين في تركيا، غير أن ظروفا صعبة دفعت هؤلاء وأولئك إلى مغادرة أوطانهم، فيما الحملات هنا وهناك على الأجانب واللاجئين تتشابه للأسف بالحديث عن التأثيرات على الهوية والأثر الثقافي والتركيبة الديمغرافية وزيادة الخصوبة في المواليد في صفوفهم، مع توجيه التهديدات لهم. ويحدُث شيءٌ شبيه بهذا في فرنسا التي تضم أكثر من مليون تركي، وتتركّز الحملات ضدهم وضد غيرهم من الأجانب والوافدين من تيارات متطرّفة.

هناك بطبيعة الحال هيئات وجمعيات وشخصيات تركية، وممن يشكلون نسبة ذات وزن وشأن في المجتمع التركي، تواجه حملة الكراهية الشعواء ضد اللاجئين، وخصوصا على العاملين منهم وعلى من يحملون أوراقا قانونية، غير أن أصوات الكارهين أعلى، وقد ارتفعت وتيرتها خلال الانتخابات، حيث تجري شيطنة اللاجئين وتبرئة من تسبّب بلجوئهم، ويشهد بلد عربي هو لبنان حملة سوداء مماثلة ضد اللاجئين.

يحتاج وجود اللاجئين في تركيا إلى تنظيم، كما أن ضمان عودتهم إلى ديارهم يتطلّب جهدا سياسيا مكثفا بالتعاون مع أطراف معنية من أجل الوصول إلى حلول ناجعة ملموسة، تجعل من الوطن السوري موطنا جاذبا لا طاردا لأبنائه. وبالعودة إلى مثال ألمانيا، ارتبط اسم شخصية سياسية، مثل أنجيلا ميركل ونيلها مركزاً متقدّما في التقديرات الدولية، بموقفها النزيه من عموم اللاجئين والأجانب في بلادها، بمن فيهم الأتراك والسوريون معاً.

ويبدو المشهد مثيرا للتساؤل، وذلك لدى ملاحظة أن اللاجئين- وبالذات السوريون- لم يكونوا وحدهم في مرمى حملات الكراهية في أجواء الانتخابات، إذ إن المكوّن الكردي في تركيا قد ناله أيضا نصيب من بعض هذه الحملات، ولا يتعلق الأمر بحزب العمال الكردستاني المصنّف إرهابياً، بل بالجمهور التركي من أصول كردية، وقد نجح هذا الجمهور ومن يؤيده من بقية الأتراك رغم ذلك، في إيصال 62 نائبا إلى مقاعد البرلمان (حزب السلام الأخضر زائداً حزب العمال). ومع هذا، هناك من يعتبر أن نفض اليد منهم يمثل واجباً قومياً.

أجل، كانت انتخابات مشرّفة وباهرة، أضافت الكثير الإيجابي إلى صورة تركيا مما يستحقّ الزهو به والبناء عليه، غير أن ما شاب الحملات الانتخابية من خطاب الكراهية القصوى يثير الحاجة ربما إلى إبرام عقد ثقافي واجتماعي بإسناد قانوني يوطّد أركان دولة القانون، ويقفل الطريق أمام تفشّي موجات الكراهية.

مقالات ذات صلة