من الماضي وإلى الماضي تعود

دلال البزري

حرير- الماضي الذي يبنْيه المنتصرون. يستولون على ذاكرة المهزومين، يكتبون تاريخهم على وقْع سيوفهم. يجمّلون بها صورتهم وسمعتهم، ويخرجون منها بأبهى ما يكون عليه الحكّام العقلاء الحكّماء الرُحَماء. فيكون انتصارهم على صفحة بيضاء من نُبل الوسائل والأهداف. مثل المنتصر إسكندر المقدوني، “الأكبر”، “ذو القرْنين”، الذي أحرق نصف آسيا وصولاً حتى أبواب الهند. فكان ماضيه هذا مكلّلاً بنسيان الحرائق، بانتشار الثقافة الهيلينية السعيدة المتفلْسفة الراقية، قرينة إنكليزيتنا اليوم. من لا يحترفها في تلك الأزمان يكون حتماً من الخاسرين. ومثل إسكندر “الأكبر” أمثال لا تُحصى، منتصرون أجْدَد منه، كان إصرارهم على كتابة الماضي مغلوبيهم على هواهم.

ثم الماضي الذي يكتبه المصرّون على الأخذ بالثأر منه، بعدما أذاقهم المرّ. مهما كان بعيداً، مهما اختلطت الأنساب، وتوسّعت الحواضر. وللقادرين منهم على الغلَبة، يتحوّل هذا الماضي إلى حاضر له رموزه ورايته ونشيده وفنونه، وكل قواعد “الشرعية” التي يبنون عليها مجدهم. إنه الهواء النقي بالنسبة لهم. يضخّ على مسامع أهله الشحنات اللازمة لاستمرار الطاقة على الغضب من هذا الماضي، والانتقام مما كان عليه الحال وقتها، كانتقال “نهائي” من الاستضعاف إلى الاستكبار. والأرجح أنه الماضي الوحيد الذي لا يمضي. يقابله ماضٍ وقع عليه الحُرم التام، الإلغاء التام. مثل ماضي السجناء، وقد محا التعذيب المروّع ذاكرتهم، ولا يعودون يعرفون شيئاً عن أمهاتهم وآبائهم. فيصبح ماضيهم ممسوحاً. ويكونون مثل الأداة الطيّعة بيد معلميهم المنتصرين على بني قومهم. وهذه ربما أقسى حالات الماضي، ليس للذي قُتِلَت ذاكرته، أو جفّت، إنما لأهله وأحبائه.

وهناك طبعاً الماضي النوستالجي، وهو الأكثر انتشاراً بين البشر. أو هو ربما من صميم تكوينهم، أو نموّهم أو انتقالهم، أو تقدمهم أو تأخرهم، أو تراجع أمنهم أو رخائهم؛ أو أي سببٍ من الأسباب الكثيرة التي تغذي هذا النوع من الماضي. وبألمٍ يرتدي أحياناً صيغة المهرجان، أو الاحتفال، أو اقتناء الأنتيكات.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان في حملته الانتخابية أخيراً يَعِد الفرنسيين بكذا وكيت من المطالب الحياتية الدقيقة، تراجع بعدما ورّطه بوتين بحربٍ كان يستبعدها، واستفحلت أزمة المناخ التي فاقت توقعات علمائه. فأعلن للفرنسيين في خطابه أخيراً أنه “انتهى عهد الوفْرة وخلوّ البال”، أي أنه وضعهم من دون تأخير، في حالة الذين سيصابون بمرض النوستالجيا المعروف. والأرجح ان أوروبا كلها بدأت مشوارها الجديد نحو ماضيها القريب، وربما الأبعد.

وثمة ماضٍ فردي، خاص. يخصّني، وقد يخصّكَ، لو كنتَ في حالتي. فأنا اجتزتُ السبعين من العمر، وفي الوقت نفسه، هاجرتُ من لبنان منذ انفجار المرفأ. بهاتين الصفتَين الجديدتَين عليّ تكثّف عندي الماضي، أو تغيرت حركته. باتَ أوسع، أثقل، أكثر إلحاحاً. ليس فعلاً إرادياً، ولا استذكاراً، أو ذكريات. إنه ومْضات خاطفة، هائلة وحادة. مثل عصف يهزّني، يربكني للحظات، ويخزّنه عقلي.

كانت هذه الومْضات الماضية تغزوني قبل هجرتي. وكنتُ أقول لنفسي إن هذا من أسباب العمر. ولكن عندما هاجرتُ، تسارعت حركتها، وباتَ كل انتقال من مكاني إلى آخر، أو التحدّث مع شخص ما، أو متابعة الفصول، أو النظر إلى السماء، أو إعداد الطعام .. كله يرمي في مخيّلتي موضوعاً من هذه الومْضات، فتدبّ فيها الفوضى العارمة، وتختلط حولها المشاعر، بين الابتهاج والحزن، ولا يستوي ميزان الاثنين، حتى عند النوم، فالأحلام تدْرك الومْضات، وتخترع لكل واحدة منها حبكة مركّبة، لا تنتهي واحدة منها على خير. فأُقبل على النوم بخشية، وأستفيق بأخرى.

عند هذا الحدّ، وتوخّياً للصحة النفسية، قرّرتُ أن “أفرز” بين “ألوان” الماضي الذي تأتي به تلك الومضات، بغية تجنب أذاها وفوضاها. أريد أن أعيشها من دون ألم، وربما بشيءٍ من الوعي لها، وهذا هو الأصعب. بكل الأحوال، لا أريد أن أكون ضحيتها، فكان تجوالي بين مدينتي تورنتو ومونتريال الكنديتين، ومحاولات “الفرز” الأولية:

أوله ماضي الروائح. رائحة الزعتر البلدي، والفلفل الحرّ الأحمر، والحمص بالطحينة… ثم رائحة الأرض المبلَّلة بمياه الشتاء، ورائحة الشجر، ورائحة صابون الغار، ورائحة عادم السيارات..

ماضي الأذن. صوت سيارات قليلة بعيدة. وشوْشات الجيران الساهرين من حولنا، المتسامرين، أو صوت “الجيز” الليلي، المختبئ داخل الأشجار، أو صوت عبد الحليم حافظ الذي يصْدح في مطعم “مها” المصري..

ماضي المشهد الذي أمام ناظري. مسجد هنا، كنيسة هناك، جورة هنا، عمارة حديثة مهملة هناك. مقطع من حيّ، أو من تلّة، أيام الصيف والربيع. جبل يفاجئكَ، أحياء مهملة، أشغال لم تنته. مسلسل عربي على التلفزيون. منزل معماره من حجر.

كله عندي، وتفرعاته التي لا تنتهي… يقفز عليّ بحواسي الثلاث “مثل الماضي”، يفجعني ويفرحني. أحبّه، بجماله وبشاعته وألفته، وجاذبيته الحزينة التي لا تقاوَم. وكلما خرجت من ذاك الماضي قشرة، أطلّت أخرى برأسها، فينكبّ عليّ المزيد من هذه الومْضات. مثل اللعبة الروسية، ولكن مقلوبة. تبدأ من الأصغر، لا الأكبر. وحده الفرز يعود فيهذبها، ويعطيني قليلاً من النَفَس.

حسناً، والآن .. ما هو ماضي اليوم؟ إليكَ إشارة منه: سألتني نادين، صديقتي الكندية، إن كنت أحببتُ كندا. فتذكّرتُ القاهرة، التي هاجرتُ إليها أيضاً، في حياتي السابقة. في السنة الأولى، كانت غريبة تماماً عليّ. زياراتي السابقة إليها لم تعلّمني الكثير عنها. المهم أنه بعد عامين على مرور الفصول الأربعة عليها، بدأتُ أشعر بدفئها. بعدهما، عشتُ فيها كأنها بلدي، أي أنني أحببتها. أما كندا، فيجب أن يمرّ أكثر من عامين على مراقبة فصولها الأربعة، حتى يسكن “ماضيها” في مخيلتي. فهي أقل دفئاً من القاهرة.

إلى متى، كل هذه “الحركة”؟ لا أعرف تماماً. ربما لا نهاية لها. بل هناك مفارقة تتربّص بها، بأنه كلما تقدمتَ في العمر، تراجعت ذاكرتكَ. تنسى الأسماء، والأرقام، العناوين، وصفات الطعام. ولكن بالمقابل، يكون خزين ماضيك قد راكم بذوراً سوف تُنثر عليكَ وأنتَ بهذا العمر. وكلما زادَ عمركَ طولاً، حصلت تلك الحركة المزدوجة. بين نسيان وتذكّر. وقد يتحوّل التذكّر إلى سلاح ضد النسيان “البيولوجي”. وقد لا تنتهي الحلقة إلا بالموت، فأنت أيها الإنسان، من الماضي وإلى الماضي تعود.

مقالات ذات صلة