ديمقراطية الامتناع/ احتلال الشارع: مأزق فرنسا المعاصرة

صبحي حديدي

حرير-  وينقله ماكرون اليوم إلى المواطنين اتكاءً على الشرعية الديمقراطية الذاتية للمواطنين، وأخيراً حقيقة أنه يؤمن بثقل الكلمات، قوّة الإفصاح عن التأمل، وتدبُّر الإقناع».

إطناب من عيار ثقيل، غنيّ عن القول، سوف يتصادى مع تيار آخر فرنسي هذه المرّة، «اكتشف» أنّ ماكرون تلميذ نجيب لفيلسوف الإنسانيات الفرنسي بول ريكور (1913-2005)؛ صاحب أعمال تأسيسية مثل ثلاثية «فلسفة الإرادة» و«التاريخ والحقيقة» و«الذات بوصفها آخر».

ولم نعدم كاتباً فرنسياً، فرنسوا دوس، أصدر في مطلع رئاسة ماكرون الأولى كتاباً بعنوان «الفيلسوف والرئيس: ريكور وماكرون»؛ ساجل فيه بأنّ برامج الأخير تتناغم مع فلسفة الأوّل في جوانب أخلاقية عديدة، وتأويل أشغال التاريخ، واستكمال واجبات الذاكرة، والالتزام بطراز من العلمانية مفتوح على حسن النوايا والاستضافة وتفعيل النظام الديمقراطي، وسوى ذلك. ليس مدهشاً أنّ المؤلف ذاته عاد وأصدر كتاباً ثانياً عنوانه «ماكرون أو الأوهام الضائعة ـ دموع بول ريكور» يستخلص فيه (ولكن دون أن يتراجع عن خلاصات كتابه الأوّل!) أنّ الفيلسوف يدمع حزناً على ما آل إليه الرئيس.

وبين مفاعيل هذَين الاستقطابين، خلف حراك الشارع الشعبي اليوم ضدّ تشريعات التقاعد، يتعاظم مأزق ديمقراطية قوامها حشود تمتنع عن التصويت بمعدّل 6 من كلّ عشرة مواطنين، مقابل سلطة تنفيذية يترأسها ليبرالي عتيد أحال اليسار واليمين إلى الصفوف الخلفية.

ثمة استقطاب ثالث يخصّ الحاضر الفرنسي تحديداً، ضمن منظور الخروج إلى الشارع كوسيلة كبرى للاحتجاج والسعي إلى التغيير، وفي إطار نقاش كهذا يصعب على المرء إغفال ظاهرة السترات الصفراء التي عمّت فرنسا قبل خمس سنوات، من زوايا عديدة لعل الأكثر التصاقاً منها بسياقات الراهن هي حكاية التأويل: أهي حركة أنذرت بولادة «ائتلاف الريف والمدينة» أو «صحوة الطبقة العاملة» أو «انتفاضة الطبقة الوسطى»؛ أم هي، على الضفة الموازية، كسر لمعادلة ماكرون في تحييد اليمين واليسار، أو مطالبة بطيّ صفحة الجمهورية الخامسة، أو تسجيل عودة الإيديولوجيا؟ الأوضح مع ذلك، والأشدّ واقعية وصواباً، كان الإقرار بأنّ الحركة وليدة حزمة الضرائب ذاتها التي وعد بها المرشح الرئاسي ماكرون في برنامجه الانتخابي؛ بل كانت أقرب إلى «بصمة» شخصية» تحدّد مسارات رئاسته.

وكان فيلسوف آخر غير هابرماس، هو عالم الاجتماع والمفكر الفرنسي بيير بورديو (1930 ـ 2002) أحد آخر الكبار المحترمين الذين كرّسوا الكثير من الجهد المعمّق المنتظم والمنهجي لدراسة ظواهر السياسة اليومية في فرنسا المعاصرة. ولقد ظلّ بورديو شديد القلق إزاء شبكة العلاقات المعقدة بين رأس المال المعاصر والخطاب السياسي الشعبوي، أو حتى الشعبوي، وكان بالغ الحصانة ضدّ إغواء الألعاب النظرية ما بعد الحداثية التي تطمس التاريخ كشرط أوّل لافتتاح اللعب.

ولم يكن غريباً بالتالي أن بورديو، صحبة نفر قليل من ممثلي هذه الأقلية، شارك في اجتماع شهير مع القيادات النقابية الفرنسية لاتخاذ قرار الإضراب الشامل الواسع الذي شلّ مختلف قطاعات الحياة اليومية الفرنسية أواخر العام 1995. ولم يكن غريباً، أيضاً، أنه آنذاك وضع إصبعه على الغور العميق للجرح الحقيقي، أي اغتراب المجتمع الفرنسي بين خيارين أحلاهما مرّ، بل شديد المرارة: الليبرالية الهوجاء التي تخبط في الإصلاح خبط عشواء، والبربرية الوقحة لنفر من التكنوقراط يرون أنهم يعرفون الدرب إلى سعادة الأمّة أكثر من الأمّة نفسها.

وتلك وجهة أخرى لتشخيص الداء الراهن لديمقراطية فرنسية ترسل إلى الشارع ملايين الرافضين، ولكنها لا تلاقي صندوق الاقتراع إلا بنسبة الثلث التي تسفر عن صعود أمثال ماكرون، وسنّ التشريعات طبقاً للمادة 3ـ49. وللحشود أن تعترض، ما شاء لها السخط….

مقالات ذات صلة