النظرة الأمريكية المُبسّطة لحرب السودان

د. الشفيع سعيد

حرير- بتاريخ الرابع من ديسمبر/كانون الأول الجاري، نشر موقع «سواحل» الالكتروني حواراً بين أليكس ثورستون، مؤسس الموقع والأستاذ في جامعة سينسيناتي الأمريكية، وكاميرون هدسون، المهتم بالسودان، والذي عمل محللا في وكالة الاستخبارات المركزية، ومديراً للشؤون الأفريقية في مجلس الأمن القومي الأمريكي. جاء الحوار بمناسبة تصريحات الرئيس ترامب وتعهداته بوقف الحرب في السودان، وتضمّن نقاطاً هامة عن توجهات الإدارة الأمريكية والمبادرة الرباعية حول الحرب، ورأيتُ من المفيد نشرها علّها تثير عصفاً ذهنياً في أوساط القوى السياسية السودانية حول مغزى هذه التوجهات، وتساعدها في كيفية التعامل معها، ولقد تناولت في المقال السابق بعضاً من تلك النقاط، وأواصل ذلك في مقال اليوم.

تناولت إحدى النقاط الهامة في الحوار، ما يثار عن تذرع الإدارة الأمريكية بالمعادلة الأخلاقية والخطابية، وبالتالي وصفها قوات الدعم السريع والجيش السوداني كخصمين متماثلين، يتم التعامل معهما بالتساوي.

تناول كاميرون هدسون هذه النقطة بإستفاضة قائلا بأن نظرة الكثيرين في واشنطن إلى حرب السودان تجنح إلى التبسيط المخل، وأن البعض في المؤسسات الأمريكية، كوزارة الخارجية وفي مجتمعات الأمريكان المهتمين بالسودان، يتعاملون مع صراع السودان الراهن بتحيزاتهم الخاصة، التي تشكلت معظمها من خلال تجاربهم السابقة في التعامل مع حكومة السودان تحت حكم البشير.

وكثير ممن كانت لهم علاقة طويلة مع السودان يستمرون في النظر إلى الجيش السوداني باعتباره الآلية الرئيسة للفساد والقمع ومرتع خلايا الإسلام السياسي في البلد، رغم أنني، والقول لهدسون، أعتقد أن دور الجيش كان دائماً أكثر تعقيداً من ذلك، وقد تطور بالتأكيد منذ خلع البشير في 2019. ومع ذلك، يجادل هؤلاء في واشنطن بأن قوات الدعم السريع هي مجرد مولود خُلق في رحم الجيش السوداني، وبالتالي فإن الجيش يتحمل المسؤولية عن خطايا هذا الوحش الذي خلقه. وعلى ذات النسق، والحديث لكاميرون هدسون أيضا، يشير هؤلاء إلى انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الاول 2021 على الحكومة الانتقالية المدنية، الذي نفّذه الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بشكل مشترك. لهذا السبب، كانت واشنطن، تحت إدارة كل من بايدن وترامب، تميل إلى تصوير الأطراف على أنهم متساوون في الجرم فيما يتعلق بالحرب وانتهاكاتها العديدة، في حين أن هذا التحليل يبدو لي دائماً مختزلاً.

ويواصل هدسون: الجيش السوداني كيان معقد ويمتلئ بالعديد من النماذج المتنافسة، من المتشددين والإسلاميين الملتزمين إلى الجنود المحترفين المنفذين لولاية دستورية. ويضاعف من تعقيده ائتلافه القتالي الذي يشمل حركات دارفور، والكتائب الإسلامية، والوحدات الجديدة كقوات درع البطانة، ومجموعات المستنفرين. ولذلك، فإن التحليل المبني على رسم صورة للجيش السوداني بخطوط عريضة، وعلى الإكتفاء بتعميمات جارفة حوله، هو تحليل كسول ومبتسر. والأهم من ذلك، لا توجد مقاييس موثوقة أو قابلة لقياس الانقسامات السياسية والأيديولوجية داخل الجيش، أو لميزان القوى بين المعسكرات الداخلية المختلفة. أولئك الذين يزعمون، وكثير منهم بثقة تامة، أن الجيش يتحكم فيه بالكامل الإسلاميون، إنما يتكهنون فقط أو لايزالون تحت الصدمة منذ عهد نظام البشير. وبينما يُقر هدسون بأن الطرفين ارتكبا انتهاكات فظيعة بلغت حد جرائم الحرب، إلا أنه ينادي باتخاذ نظرة أكثر دقة لتلك الانتهاكات، والأهم من ذلك، نظرة الجمهور لسلوك كل طرف. ويقول: تحاول عدة جهات قياس مستويات العنف من كلا الجانبين وتميل إلى نسب حوالي ثلثي العنف ضد المدنيين إلى قوات الدعم السريع، مع تحمل الجيش السوداني مسؤولية حوالي الخمس. كما يُتهم الطرفان باستخدام الغذاء كسلاح حرب ومنع وصول المساعدات الإنسانية. هذا صحيح، ولكن عندما تنظر إلى المناطق التي يستخدم فيها السلاح بكثرة وشدة، ستجد أنها المناطق التي هي تحت سيطرة قوات الدعم السريع. وبالتأكيد، يتحمل الجيش السوداني أيضاً مسؤولية منع الوصول إلى المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع، وهو تكتيك استخدمه مراراً منذ الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، ولكن على عكس الجيش، استهدفت قوات الدعم السريع بشكل منهجي المستشفيات والقوافل الإنسانية وعمليات الإغاثة المختلفة لتفاقم الصورة الإنسانية السيئة أصلاً.

وعند مناقشة الجرم، من منظور سياسي وليس قانوني، يطالب هدسون بفحص طبيعة الجرائم المرتكبة، وليس فقط حجمها. فالجيش ارتكب عمليات قتل انتقامية واحتجازات جماعية، بل وإستهدف حتى اعضاء غرف للطوارئ، لكن غالبية انتهاكات الجيش تأتي من استهداف المناطق المدنية عشوائياً بالطائرات والمسيرات، بينما على الجانب الآخر، يعج السودان بقصص ومقاطع فيديو لجنود قوات الدعم السريع ينفذون مجازر وتعذيب واغتصاب واستعباد جنسي وتطهير عرقي وخطف على نطاق ضخم في كل منطقة تحت سيطرتهم. جرائمهم تذهب من منزل إلى منزل، ومن شارع إلى شارع، ومن شخص إلى شخص، لدرجة أن الكثيرين، ومن ضمنهم إدارة الرئيس بايدن، وصفتها بالإبادة الجماعية.

ويختتم هدسون مناقشته منبهاً أنه عند تحديد المسؤولية، يجب أن نأخذ في الإعتبار رد فعل السودانيين أنفسهم تجاه التبادل في السيطرة طوال الحرب، والاستماع إلى قصصهم عن الحياة تحت سيطرة كل من قوات الدعم السريع والجيش السوداني، حيث لا يمكنك بحجة مقنعة القول بأنهما متماثلان. ويضيف، أن معظم السودانيين العاديين يرون في الجيش الكيان الوحيد المهتم أصلاً بحمايتهم، بغض النظر عن الانتهاكات التي يرتكبها ضد المعارضين، ويكفي أن نشهد مشاهد ابتهاج السودانيين العاديين وهم يخرجون إلى الشوارع، أحياناً لأول مرة منذ أشهر، عندما ينجح الجيش السوداني في إستعادة السيطرة على المدن من قبضة قوات الدعم السريع. فهنا يكون السودانيون قد صوتوا بأقدامهم ولا ينبغي أن نتجاهل ذلك، حتى لو كان مؤقتاً.

أيضا، معظم السودانيين لا يرغبون في العيش تحت أي حكم عسكري يوماً أكثر من اللازم، ولكن إذا أعطوا الخيار اليوم بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، فإن خيارهم يبدو واضحاً، ويجب أن تعكس سياسات الولايات المتحدة ذلك بدرجة ما.

مقالات ذات صلة