الخطاب العربي المعاصر: البدايات والأسئلة والإشكالات

سيف الدين عبد الفتاح

حرير- يبدو تميّز كتاب الباحث القدير فادي إسماعيل “الخطاب العربي المعاصر: قراءة نقدية في مفاهيم النهضة والتقدّم والحداثة 1978 – 1987” (المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن، 1994) من خلال التفكير بموضوع النهضة والتغيير والإصلاح من خلال مداخل تتعلق برصد الخطاب العربي المعاصر بشأن تلك الإشكالات والأسئلة التي يطرحها، فضلا عن ربط ذلك بالبدايات والإرهاصات التي نشأ منها وارتبط بها، ولعل هذا المدخل الذي يتعلّق بالخطاب يشير إلى اقتراح منهجية تتعلق بالأسئلة المطروحة، وكذلك السياقات المحيطة، وربط تلك الاتجاهات بمشروع النهضة في بدايته، هذا الخطاب العربي المعاصر إنما يشكل في حقيقة الأمر كاشفا للإشكال التأسيسي الذي أحاط بذلك الخطاب ضمن إرهاصاته في العصر الحديث، حيث يطرح إسماعيل مسألة غاية في الأهمية، تتمثل في أن القطيعة المعرفية وسيادة نموذج آخر، كما حدث في القرنين التاسع عشر والعشرين في عالمنا العربي والإسلامي، لا يمكن أن يتما بالكامل بعيدًا عن حركة الصراع ومعادلات القوة بين الأنماط المجتمعية ـ التاريخية، مؤكّدا أنه لا يتعالى على واقع التخلف، ولكنها تسعى إلى مواجهته على اعتبار أن حل مشكلات الأمة وقضاياها الكبرى الداخلية والخارجية ضرورة موضوعية. واشترط النجاح في هذه المعركة وجود إطار يدمج الأمة، ويشتمل على مشاعر الأمة ونفسيتها وذاكرتها الجمعية وتكوينها العقائدي والأخلاقي، مشيرًا إلى أن عقيدة التوحيد نواة هذا المركب الحضاري.

تقوم رؤية إسماعيل لأوضاع الفكر والواقع العربي على اتهام النخب في الأقطار العربية والإسلامية بالمسؤولية عن بؤس هذه الأوضاع، مؤكّدا أن الحداثة والتقدّم السائدين هما تقدّم التبعية وتحديث القمع والاستبداد والتسلط، فهو يرى أن التحديث في موقع الغلبة والضعف لا يمكن إلا أن يساهم في تعميق التفسّخ والانقسامات، وفي جعل مجتمعاتنا غير قادرةٍ على هضم الجديد واستيعاب النظم العصرية من بابها الخاص. والنتيجة واقع مسخ، ومجتمعات مفتونة متعدّدة ومتصارعة تتعايش تحت سقف واحد، سقف الدولة القُطرية المحدثة. وفي النهاية، مُرّرت تحت عباءة التقدّم والحداثة والتنمية إجراءات وأفعال هي في النتيجة ضد الحداثة والتنمية والتقدم.

تبنّى الكاتب استراتيجية طرح الأسئلة، وجعل هذه المنهجية أساسيةً في معالجته أطروحته، واقتبس أسئلةً عديدةُ طرحها كبار المفكرين، ولم يقّصر في صياغته لأسئلة متجدّدة تناقش الواقع نفسه، وتستعرض الأوضاع نفسها، خصوصا أنه لم يطرأ عليه، من وجهة نظره، أي تغيير. ولا تزال تعيش أجواء التخلف التي نبتت منها الأسئلة الأولى. ولذلك نجده يتناول إشكالية النهضة من خلال عدة أسئلة، تبحث فيما تحقق على مر المراحل التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية منذ احتكاكها بالنموذج الغربي مع الحملة الفرنسية، محاولا تقديم نماذج فكرية قومية أو ليبرالية أو إسلامية عرفتها مسيرة النموذج النهضوي العربي، مؤكّدا أن هذه التجارب لم تستطع استيعاب الطابع التاريخي للأنماط التي استنسخوها من النماذج الحضارية الأخرى.

ولإدراكه أهمية الأسئلة الكبرى، يؤكّد المؤلف أن هناك حاجة لطرحها، لأنها تسهم في فهم واقعنا وأوضاعنا؛ ومن ثم هو يعيد طرح سؤال شكيب أرسلان: لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم؟ بل ويدخل عليه تطويرا بقوله؛ لماذا بعد أكثر من مائة سنة من محاولات النهضة والتقدّم والتوفيق مع العصر لم نتصالح معه ولم نتقدّم؟

ينطلق إلى رصد إشكالات التحديث والتقدّم والتأخر والتخلف، مؤكدا أنها لا يمكن أن تُعالج إلا عبر فك ارتباطها مع مفاهيم وأيديولوجية الغلبة الفكرية الغربية التي تستتبع كل معايير ومقاييس فهم ووعي حركة الواقع الفكري والحضاري والثقافي والاجتماعي السياسي، وقد حاول قراءة حركة التقدّم من خلال العلاقة التي تربط تجربة التقدّم بالمجتمع أو الجماعة والدولة من خلفية فكرية تلحظ الصراع الحضاري بين الحضارة العربية ـ الإسلامية وبين الحضارة الغربية، وبالتالي، تلحظ مقاومة الجماعة المغلوبة في هذا الصراع لتجربة التقدّم والحداثة التي يمثلها الغالب.

يؤكّد الكاتب أن إشكالية عصر النهضة لا تزال هي هي وإن اختلفت التسميات؛ التقدّم والتأخّر، قديم وعصري، تقليدي وحديث، تنمية وتخلف، مشيرًا إلى أننا في عالمنا العربي والإسلامي لم نخرُج من هذا الإطار، وأنه لا يزال بعيدا جدا عن تحقيق أهدافه الكبرى، بل إن أوضاعه في تدهور مستمرّ. ولعل المقارنة مع مجتمعات حضارية أخرى، مثل الهند والصين واليابان، تكشف بجلاء هذا التدهور وذلك التراجع، مؤكّدًا أن هذه النخب وهذه السياسات النهضوية والتقدّمية والثقافية ارتكبت جرائم عديدة في الفكر والواقع باسمها، وقد حرص الكاتب على تقديم قراءة نقدية من خلال كبار المفكرين والكتاب للواقع العربي على مرّ هذه التجربة بما فيها من محاولات، وأفكار، وقيم، وسياسات.

وفي محاولته لفهم هذه السياقات النهضوية، يتحدّث عن الأبعاد والمستويات السياسية المجتمعية للقراءات حول النهضة، ويركّز على المجتمع والدولة والغرب؛ ويعتمد الكاتب على منهجه نفسه في التعرّف إلى السياقات من خلال الإسهامات الفكرية التي قدّمتها الاتجاهات والتيارات العربية والإسلامية في هذا الإطار. ويخلص إلى أن هذه المستويات التاريخية والسياسية والثقافية تتداخل أحيانًا وتتعارض أحيانًا. ولكن القراءات المختلفة لتلك التصنيفات والتعقيبات تبقى، في جميع الأحوال، غير معبّرة عن وعي الذات، بل هي تكرار لوعي الغالب (الغرب)، وما يقدّمه من صورة عن وعينا لذاتنا، مؤكّدا أن المسألة إذن هي مسألة غلبة شاملة على المستويات العليا الحضارية ـ السياسية، هذه الغلبة بما لها من تنظير أيديولوجي هي التي تشكّل مرجعا للقراءات التي أسّست لوعي زائف للذات لا يتطابق دائما مع الواقع التاريخي ـ المجتمعي.

وفيما يبدو أن الكاتب يريد أن يثبت هذه الأفكار ويعمّقها. ولذلك يلجأ إلى النماذج العملية، فيستعرض نموذج محمد علي/ رفاعة الطهطاوي، ويخلص إلى أن الطهطاوي كان مؤسّسا، أسّس لتيار التحديث وأطروحاته التوفيقية والاعتدالية، من موقع التكيّف مع القوة القاهرة، وكان الثمن أن هذا التقدّم، والتمدّن والنهضة تمت على حساب الوجود السياسي والاجتماعي للكتل الشعبية في مختلف بناها ودوائرها، وانعكست عليها انحلالًا وتفسيخًا وتفكيكًا وتغريبًا وقمعًا، كما يتحدّث عما سماها مقاومة المغلوبين، مؤكّدا أن هذا التيار لم يحظ بالاهتمام، رغم كونه يعبّر عن ردة فعل الجماعة أو العامة أو الأغلبية الشعبية.

وفي تقييمه تجربة التقدّم الراهنة، يتحدّث عما سماها “فتنة الحداثة”، حيث يلقي الضوء على مجتمع النخبة العربية، وعلى سياساته الثقافية والتنموية وأيديولوجيته وأطروحاته النظرية التي ساندت سياساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سياق تجربة التقدّم العربي المعاصر، للوصول إلى الأهداف المعلنة الكبرى من إصلاح ونهضة وتحرّر وحرية ووحدة وتحديث وقوة واستقلال وتمدّن، ويصل إلى أن الحداثة، بعلمانيّتها وعقلانيتها، لم تستطع أن تتحوّل إلى عقيدة وثقافة شعبية، لأنها كانت اغتصابًا لعقيدة المجتمع الأهلي المغلوب وثقافته ولبناه وقيمه، أخفقت العلمانية كما أخفقت العقلانية، وهذا جزءٌ من إخفاق الحداثة ككل في تجربة التقدّم العربي.

فادي إسماعيل من مدرسةٍ ترى أن التقدّم العربي منذ عصر النهضة جزئي لمجتمع صغير فوقي، وانحدار وسقوط للأغلبية الشعبية أو المجتمع الأهلي التي اكتوت بالحداثة، ذلك أن الحداثة كما طبقت أضرّت بإمكانية التقدم النافع والطيب، إذ كانت عنصر تخريب وتفكيك.

مقالات ذات صلة