
المقايضة وشخصنة السياسة: هكذا تكلّم ترامب
لطفي العبيدي
حرير- الاستراتيجية الأمريكية تطال بتأثيراتها الجيوسياسية، وبميزان التقدير الاستراتيجي الحضور الأمريكي في أكثر من منطقة حول العالم على اختلاف أشكاله، على نحو المحافظة على الهيبة، أو الصورة المعنوية والنفوذ السياسي. وشخصنة السياسة هي إحدى السمات التي تميّز خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي ينتهج سياسة وإن كانت في ظاهرها غير متزنة، فإنه فيما يبدو يختبر ردود الفعل على قراراته وصداها لدى الآخرين ومراقبة مدى تحوّلها إلى أمر واقع.
تتمحور كل هذه التأثيرات في “خطاب القوة” حول الوجود العسكري الأمريكي المباشر في أكثر من منطقة حول العالم، والتلويح بالتدخل العسكري إن لزم الأمر للمحافظة على المصالح الاستراتيجية والاقتصادية والتجارية. هذا ما يفسر لهجة ترامب تجاه كندا، أو بنما وإيران أيضا، وإن كان من المرجح أن يصعّد صدامه مع الصين في الأيام المقبلة والعودة إلى سيرته الأولى في فترة حكمه السابقة. صعود الصين، وبريق العالم البديل الذي قد يُرافق هذا الصعود، يوضح أنّ القرن الأمريكي الذي نادى به كثير من المنظرين وفق رؤية للهيمنة العالمية هو في أيّامه الأخيرة. بيد أنّه لم يتضح بعد ما الذي سيعقب هذا القرن الأمريكي. فهل نشهد عودةً للتنافس بين القوى العظمى، مع عودة رئيس مثل دونالد ترامب للحكم، حيث تتصارع الولايات المتحدة والصّين على النفوذ والتسيّد؟ أم أنّ انحسار القوة الأمريكية سينتج واقعية أخرى وأشكالا جديدة من التعاون العالمي تفرضها موازين القوى والمصالح الاقتصادية أساسا؟
ربما هذا ما يدفع الرئيس الأمريكي لتهدئة الأوضاع مع روسيا في هذه الأيام، والبحث عن تطبيع العلاقات بين واشنطن وموسكو، وإن كان ذلك عبر التضحية بكييف وطموحاتها العالية في الانضمام للناتو، وردع روسيا الاتحادية. الولايات المتحدة تواجه لأوّل مرة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، دولةً يمثل نموذجها الذي يتألف من مزيج بين رأسمالية الدولة وانضباطية الحزب الشيوعي، تحديا حقيقيا للرأسمالية الليبرالية الديمقراطية، التي تبدو عاجزة، على نحو متصاعد، عن معالجة كثير من الأزمات التي تحدق بها. ولكن واقعية السياسة تقول بأنه لا بديل عن التعاون مع الصين، بشأن الاحتباس الحراري العالمي، وغيره من المشاكل والتحديات، فاليابان حليفة أمريكا مثلا لا تبحث عن نزاع ولا تخاطر بروابطها الاقتصادية، ولا يميل قسم كبير من بقية العالم إلى الانحياز، فضلا عن ذلك يتحدى الصينيون مجموعة الدول السبع، لمضاهاة مشاركتها في التنمية الافريقية. وحتى روسيا لن يستطيعوا تحييدها، رغم حجم العقوبات التي سُلطت عليها، والتي في أغلبها ارتدّت على دول الاتحاد الأوروبي، وخلقت مشاكل في الطاقة والغذاء العالميين. ولا يوجد خطأ في أن تسعى الولايات المتحدة وروسيا إلى التقارب والتعاون في القضايا الدولية الرئيسية التي تواجه العالم في الوقت الحاضر. فذلك يعدّ من الأمور الضرورية لتحقيق نوع من الاستقرار النسبي على المستوى الدولي، وتجنب التهديد الأخطر على البقاء، وهو التهديد النووي.
إذا لم تكن هناك هيمنة محتملة في إحدى المناطق الجيوستراتيجية في الشرق الأوسط، أو غرب آسيا والمحيط الهندي، فيمكن للولايات المتحدة أن تظل بعيدة وتسمح للقوى المحلية بالحفاظ على التوازن من أجل مصالحها الذاتية. ومع ذلك، إذا سعت إحدى الدول لأن تصبح قوية وطموحة للغاية، فيجب على الولايات المتحدة أن تفعل المزيد، إما من خلال دعم الحلفاء المحليين بشكل أكثر سخاء، أو من خلال نشر قواتها الخاصة في المنطقة. مثل هذه السياسة نراها تتعزز من خلال دعم الكيان الصهيوني في المنطقة، وأيضا التحالف الوثيق مع اليابان والهند وأستراليا. ويفسر هذا المنطق البسيط السبب وراء تدخل الولايات المتحدة في الحربين العالميتين الأولى والثانية. فقد سعت إلى منع الهيمنة الألمانية في أوروبا والهيمنة اليابانية في آسيا. وهو يفسر أيضا لماذا نشرت الولايات المتحدة قوات عسكرية كبيرة في أوروبا وآسيا خلال الحرب الباردة، لأنها اعتقدت أن حلفاءها المحليين لم يكونوا أقوياء أو متّحدين بالقدر الكافي لموازنة الاتحاد السوفييتي بمفردهم. وهي المفارقة التي تثيرها اليوم تصريحات ترامب بشأن أوكرانيا، ورغبته في انهاء الحرب مع الاعتراف لروسيا بما استحوذت عليه من أراض جديدة. كانت أيضا حرب الخليج الأولى في عام 1991 متوافقة مع هذا المنطق، حيث بدا أن قرار العراق بالتدخل في الكويت يشكل تهديدا محتملا للسيطرة على الخليج، ووقف التدفق الحر للنفط. اليوم، ما زال التخوف ذاته قائما وهو الذي يفسّر كيف أنّ ضمان أمن اسرائيل وتفوّقها العسكري، هو الركيزة الأساسية للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط. وكلّ ما تقوم به الولايات المتحدة سياسيا وعسكريا ودبلوماسيا في الهيئات الأممية منذ عقود، والذي ازداد انكشافا ضمن معركة طوفان الأقصى وما بعدها، من مواصلة الدعم المطلق للكيان والدفع نحو التهجير، إنّما يخدم هذه الركيزة التي توازيها مصلحة استراتيجية كبرى لا يمكن أن تتنازل عنها أمريكا وهي أن تضمن لنفسها تدفّق النفط من منطقة الخليج وتحافظ على مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية.
اليوم، يؤكد دعاة “الترامبية” على “السلام من خلال القوة”، واستخدام هذه القوة في الردع شرقا وغربا. الترامبية التي تعاند أعراف التعددية والتعايش في الداخل والتحالفات والعمل الدبلوماسي في الخارج، تشكل في عمقها جموحا سياسيّا لرجل جمع ثروة غير معروفة في الاستثمار العقاري، وتشبع خلال العقود الأربعة الأخيرة بنرجسية الرجل القوي الذي يريد أن يكون الرابح في كل مكان وزمان، وينصب نفسه رئيس مجلس إدارة أمريكا، أملا في الجمع بين المجد المالي والمجد السياسي. تلك هي السياسة الخارجية لترامب على قاعدة الثّابت والمتحوّل كما يراها محمد الشرقاوي.
وبشكل عام، الأمور تنذر اليوم بموجات عدم استقرار ذات منسوب عال، ليس في الشرق الأوسط فقط، بل حتى في الدول الديمقراطية الليبرالية، التي تخلّت عن مبادئ حقوق الإنسان والعدالة الدولية. وتبقى مشكلة الوجود الاستعماري الإسرائيلي الذي يريد تصفية فلسطين وتهجير شعبها عبر التطهير العرقي، من أكثر الأسباب التي تزيد من منسوب الفوضى والحروب والانتهاكات التي لا سبيل لحلّها إلا بإعطاء الحقوق لأصحابها واعلان قيام الدولة الفلسطينية كاملة السيادة.



