عن “شارلي إيبدو” وزلزال تركيا

محمد سي بشير

حرير- تردّدت كثيرا قبل الكتابة في هذا الموضوع، لأنّ الرّد على السّفيه سفاهة، في حدّ ذاتها. ولكن، بالنّظر إلى ارتدادات كاريكاتور نشرته تلك الصحيفة الأسبوعية المقيتة، “شارلي إيبدو”، الفرنسية، الرائدة، زعما، في حرّية التّعبير، فإن إخواننا الذين قضوا في زلزال تركيا وشمال سورية يستحقُّون منّا وقفة للدفاع عن الحضارة التي يقال إنّنا من خارجها أو لم تبلغنا، بعد.

بدأت القصّة، منذ عمليات فرنسا الإرهابية، منذ سنوات، عندما هُوجمت الصحيفة، ووقع من بين صحافييها ورسّاميها ضحايا، لينتشر شعارٌ أضحى، آنذاك، الفارق بين الحضارة واللاحضارة، وهو “أنا شارلي”، باعتبار أن ذلك الشعار صوت يرتفع للتنديد بالإرهاب وبمنفذيه، ولكن مع أبعاد فلسفية بمضامين كلُّها معايير مزدوجة، لأنّ ما وقع للصّحيفة السّاخرة، مع وحشيته، يقع، يوميا، في فلسطين وفي أماكن عديدة، من دون أن يرتفع صوت من المتحضّرين للتّنديد بالإرهابي، صاحب العملية والقاتل، وتحيّة ذكرى الضحية، ما دفع بكاتب هذه السطور إلى الكتابة، آنذاك، بأننا “لسنا شارلي”، وهي حملة مضادّة في فرنسا، بصفة خاصّة، كان لها روّادها للتّعبير عن تلك المعايير، وبأنّ الواجب هو المساواة في النّظر إلى قيمة الإنسان، وليس الموازنة بين من يقع ضحية وبين القاتل.

عادت الصّحيفة، هذه المرّة، وكأنّها في مهمّة انتقامية، لتنشر، غداة وقوع الزّلزال المروّع في تركيا وفي شمال سورية، رسما كاريكاتوريا يلخّص كل الحقد الحضاري والرؤية الغربية المتعالية، خصوصا إزاء المسلمين والعرب، ومعه تلك الإشارة/ التّعليق إلى أنّ ما وقع يفوق كل الأمنيات وحدث من دون استخدام دبّابات ولا طائرات، تلميحا إلى أن أقصى ما كان يتمنّاه الغرب هو تدمير تركيا، وإن ما وقع فاق كل التوقعات، من دون الإشارة، ولو في رسم آخر، أو ملاحظة عابرة، إلى آلاف من الضّحايا الذين قضوا في الزلزال، أو ممن هم تحت الأنقاض والناجين ممن يجب إسعافهم وتقديم يد المساعدة لهم بصفة عاجلة، وعلى الأصعدة كافة.

الغريب، في الأمر، أنّ الإعلام الفرنسي، إلا من شذّ، وهو قليل جدّا، لم يشر، و لو في تعليق، في افتتاحية أو في تنديد ما، إلى ما فعلته الصحيفة الساخرة، معتبرين، ضمنا، أنّ الرّسم الكاريكاتوري سخرية وفقط، وليس خروجا من دائرة الإنسانية وتعبيرا عن الحقد والكراهية التي تملأ آذاننا كلّما تقع ضحيّة غربيّة أو بمناسبة الحرب على أوكرانيا، مثلا، إزاء المسلمين والعرب أو الرُّوس، بل امتلأت البلاتوهات الإعلامية بتعليقات إعلامية ونخبوية بنقاشاتٍ عابرة، لم تثر قضية ذلك الرسم، ولم ترفع الصوت، كما اعتادت، عندما يكون الأمر عملية إرهابية أو جريمة يكون من قام بها من فئة من يجب إبراز الكراهية إزاءهم، و لو من خلال الرّسم والتّعليق السّاخر والسّمج.

ثلاث ملاحظات يمكن الحديث عنها، هنا، للتعليق على ما وقع من “شارلي إيبدو”، لعلّ الأولى استثناء بعض الفرنسيين الشرفاء، بل والغربيين، أيضا، ممن كان لهم موقف من الرّسم الكاريكاتوري الساخر للتنديد به، وللتعبير عن وقوفهم مع إخواننا في تركيا وشمال سورية في مصابهم الجلل، ما أسرع بحملات المساعدة الإنسانية للوصول إلى الضحايا، وهو موقفٌ يعبر عن أنّ الإنسانية ليست قيمة مزدوجة وأن من الغرب، ومن فرنسا، بصفة خاصّة، من له شرف النّظر إلى الإنسان من دون بعده الحضاري أو انتمائه، وخصوصا عندما يقع جدث جلل، على غرار زلزال مدمّر بدرجة 7.8 وبعدد من الضحايا كبير جدا، فضلا عن حالة التدمير والصفة العاجلة لوجوب إسعاف الأحياء.

تشير الملاحظة الثّانية إلى معنى الحضارة عند الذين يتغنّون بأنهم المتحضّرون، من دون غيرهم، وبأنّ فضاءهم الجغرافي وإنسانيتهم هي الحديقة، وباقي العالم هو الغابة. ولذلك، حتى في حالة زلزال مدمّر، يجب الاستمرار في التعبير عن تلك القيم، وهو ما يؤكّد أنّ ما عبرنا عنه، منذ أعوام، بأننا “لسنا شارلي”، ولا يمكننا كذلك، لاعتبارات كثيرة، كان حقا، وليس انحيازا قيميا، حيث إنّنا ندّدنا بالعمليات الإرهابية. ولكننا قلنا، وبالصّوت العالي، إنّ من قام بذلك هم فئة نعتبرها من المجرمين، ولا نحمل قيمها، ولكن من دون أن يتجاوز ذلك إلى وجوب الاعتذار أو الخروج تحت شعار “نحن شارلي”، باعتبار أن الصحيفة كانت قد سبقت تلك العمليات برسوماتٍ مسيئة لرسولنا الكريم، عليه الصلاة والسلام، ولم تقبل منا تنديدنا بذلك بطريقة حضارية، أي بالنقاشات الإعلامية والجدالات، ما اعتبرناه، عندها، توجيها للرأي وازدواجية في فهم مبادئ حرية التّعبير.

تشير الملاحظة الأخيرة إلى ذلك الانحياز الحضاري والمعرفي الذي جاء عليه صاحب هذه السطور، مرارا وتكرارا، في مقالات سابقة في “العربي الجديد”، من الغرب إزاء قضايانا. ويبرز، الآن، حتّى على وقع زلزال، بحيث إنّ الغرب يعتبر نفسه مركز الكون، وبأنّ ضحاياه وقضاياه هي، فقط، الإشكالات، التي على العالم الاهتمام بها، وبأنّ مقاربة الانتقاد للآخر، قيميا وثقافيا وحضاريا، حقٌّ حصري له يعبّر عنها متى أراد وشاء وبالطّريقة التي يراها مناسبةً مع تضمين ما يقوم به الإشارة، كما يريد، وبتحيُّز، إلى حرية التّعبير وقيم الإنسانية بألوانٍ وبعبارات هو من يخترعهـا ويستخدمها بالمعاني التي يريد، في حين أنّ بقيّة العالم عدم ويجب ألا يلقى لمصابهم، ضحاياهم وقيمهم أدنى أهمّية، في فضاء كلُّه عمى حضاري ولا إنساني كامل، برز أكثر، منذ عام، مع تعامل الغرب مع حرب روسيا ضدّ أوكرانيا أو مع زلزال تركيا وشمال سورية بل، منذ عقود، في مقاربة التّعامل مع قضية فلسطين، بصفة خاصّة.

نصل إلى تلك التعاليق التي كان يجب أن تتضمنها صفحات الصحف، نشرات الأخبار، والمجلات، لو أن الأمر كان ضحية غربية وقعت، عملية حدثت أو أن مقالا نُشر أو كتابا تحدّث، من عندنا، عن أمرٍ يكون وقع في الغرب، وكيف أن ذلك كان سيصير صخبا إعلاميا وحديثا، على المباشر، ومتواصلا، بل وأخبارا عاجلة، ما يعبر عن مركزية الغرب، وازدواجية المعايير في النظر إلى القضية ذاتها التي يكون الإنسان هو محورها، خصوصا إذا تعلّق الأمر بزلزال مدمّر مع عدم التّعميم، كما قلنا آنفا، على الغرب كله، لكن، لماذا كل ذلك الحقد والكراهية، وخصوصا الموجهين ضدّ العـرب والمسلمين، ومن فرنسا، بالذّات؟

يمكن الإجابة عن السؤال بأنّ ثمّة صراعا حضاريا كان البابا السابق، بينديكت، المتوفّى منذ أيام فقط، قد عاد إلى إثارته، عندما تحدث عن وصف لحالة الحرب بين الغرب والفضاء العربي- الإسلامي القديم، منذ الحروب الصّليبية، في استعادة لأحداثٍ ربما تكون إشارة إلى بقاء الأمر على حاله، في الصُّورة النّمّطية للفضاء العربي – الإسلامي في إدراك الغرب، وهو إدراك ما زال حيّا ولكن التعبير عنه يتمّ بصور مختلفة، كان عبد الوهّاب المسيري أطلق عليه، في سفر ضخم، “الانحياز المعرفي الغربي”، وكان إدوارد سعيد، هو أيضا، سماه بظاهرة الاستشراق التي هي، في أساسها، قضية ثقافية، بعمق حضاري، تم إلباسها، منذ 1993، لبوسا حضاريا مع مقالة هنتنغتون “الصّراع الحضاري”، وتتلقّفها فرنســا وتجعل منها قضية التّعامل مع كل الإشكالات، حتى الإنسانية منها. ولذلك جاءت الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنّبّي عليه الصّلاة والسّلام. وجاء، الآن، هذا الرسم الكاريكاتوري السّاخر بمناسبة الزّلزال المدمر في تركيا وشمال سورية.

تلك هي مظاهر من الحضارة الغربية وقيمها التي يريد بعضهم، عندنا، اعتناقها والانتماء إليها، وهي تعبّر، يوما بعد يوم، عن قيم الكراهية، حتى في أحلك الظروف، وتطالبنا بأن نكون أكثر ملكيين من الملك بأن ننحاز لقيمهم، وهم لا يملكون حتى قيمة تقديم العزاء في مصابنا. ذلك هو الغرب وتلك قيمه، فهل نستفيق؟

مقالات ذات صلة