الروح الإسلامية في سبيل النهضة

مهنا الحبيل

حرير- لفتت نظري رسالة المفكر الإسلامي، أنور إبراهيم، التي بعثها من سجنه الانفرادي، وهو أحد أبرز رواد المشروع النهضوي في حاضر العالم الإسلامي، الذين انتقلوا من الفكر إلى المجتمع، وخصوصا من خلال الشباب والحركة الطلابية، ثم إلى الدولة وتجربة الشراكة بالحكم، من خلال مجتمع الوطن للجميع في ماليزيا، وليس من خلال وطن الجماعة أو التيار، وهذا بحد ذاته فعلٌ فكري تاريخي افترق فيه أنور إبراهيم عن ثقافة التيارات الحركية الإسلامية، وكانت روحه مشتعلة بالتقدّم الأخلاقي للوطن الحر بإرادة شعبية.

وجّه أنور الرسالة إلى المفكّر الإسلامي، والشخصية الداعمة لتجربة النهضة في ماليزيا، عبد الحميد أبو سليمان رحمه الله، وهو رحل بصمت، وغابت تجربته، وغاب فكره عن الأجيال. وهو من نخبة الشخصيات الحجازية الإسلامية التي حرّكت موقعها في الدولة السعودية، في فترات سابقة، وحقّقت جسوراً لربط علاقات الدولة، بالامتداد المتنوع لمسلمي آسيا، وكان أحد رعاة الجامعة الإسلامية العالمية في كوالالمبور. ولقد وقفتُ بنفسي على تأثير روحه ورسالته، في المشروع التعليمي والفكري بين شباب الجامعة في زيارة سابقة.

كُتبت رسالة أنور إلى أبو سليمان بعد إقصائه من الجامعة، التي كان أحد رؤسائها، ودوّنها أنور بروح ودودة للغاية للراحل ولأسرته، يداخلها بالممازحة والحب والتقدير العظيم بين أسرتيهما، وخصوصا دور أبو سليمان وأسرته في التضامن مع أسرة أنور في محنته.

يعود أنور اليوم بعد كفاح طويل، وسجن وركام هائل من الآلام، والحملات عليه زمن مهاتير محمد. وقد شعر آخرون بأن أنور قد يهدّد مصالحهم، حتى مع اختلافهم مع مهاتير. ويؤكّد أنور، في هذه الرسالة، أنه يستشعر الحملة لاغتياله معنوياً وسياسياً. ومع ذلك انتصر من جديد، وكسب المعركة وهو في موقع رئاسة الحكومة، الذي بدأ رحلتها الأخيرة، بالتنازل لمهاتير محمد، رغم كل ما فعله به، وأيضاً عاد مهاتير لينقض العهد مع أنور، ويرتّب لاستقالته الأخيرة لحرمان أنور من الرئاسة. وقد خطّط مهاتير لذلك رغم تقدّمه في العمر، في سبيل أن تُرشّحه كتلة من منظمة أمنو، ولكنهم تخلوا عنه، وحين دخل في الانتخابات أخيرا فشل فشلاً ذريعاً وعاقبه الشعب، أو لم يعد يثق بقدرته على قيادة ماليزيا من جديد، وهذا خلافاً لما يبرّر به مهاتير محمد، رائد النهضة الماليزية، حين يُحمّل الآخرين المسؤولية ويُبرئ نفسه.

هل هذا يعني أن مهاتير قدّم تجربة مزيفة؟ كلا .. ولكن خندق الصراع السياسي قذرٌ للغاية، فكما تُسجَّل لمهاتير رحلته المميزة، عليه دورٌ في الفشل، وسؤال رحلة الفساد التي بدأت في عهده، حسب شهادات الملايو، ثم تضخّم حتى أنهك سمعة أمنو، وقطع الطريق على رحلة ماليزيا الديمقراطية، التي حافظت على القيم الإسلامية، وظلت روح الإسلام فيها تنتقل إلى الأجيال. وكادت ماليزيا أن تغرق، لولا حركة استرداد الحرية التي قادتها، وإن عزيزة يوسف زوجة أنور، تحت راية رجل الأمل الشبابي للنهضة، الذي اصطفّت حوله المعارضة، فأسقطت حكومة نجيب.

ولستُ أقصد أننا عند العتبة الأخيرة، لتحقيق النصر في مشروع أنور إبراهيم السياسي، فأمام أنور تحدّيات كبرى، وقوى مصالح وصراع تبدأ من القاعدة المالاوية، حيث تحالف إخوان ماليزيا (باس) مع كتلة من قوميي أمنو ضده، وهناك كتلة أخرى من أمنو مع قوة اقتصادية من الماليزيين الصينيين، وهو ما يُصعّب عليه الطريق في قيادة تحالفه للحكم، الذي يضم القوى الأكبر من الماليزيين الصينيين، والماليزيين الهنود. ولذلك هو يحتاج، بالضرورة، إلى اختراقٍ مهم، يُقنع به مساحة من القاعدة الشعبية الملاوية، من أن ماليزيا القوية بنهضتها، المتحرّرة من الفساد الضخم، هي الدولة التي تقوى بذاتها، أمام خطر الصين، وأن شراكة شباب الملايو مع أنور ستنتج كتلة وطنية متمازجة متعايشة، مع بقية الشباب الماليزي المتحمّس للتغيير ضد الفساد، تعبُر به ماليزيا إلى الأمل الكبير.

هذا فضلاً عن التحدّي الاقتصادي، وترقب الغرب الخبيث، الذي حين يرى أن كوالالمبور ستعود قوية لقيادة نمور آسيا، سيكون إسقاط أنور هدفاً له، وينتهي موسم مدحه مقابل مهاتير، فتلك المعركة لم تكن إلا نوعاً من الاستغلال للخلاف، ورفض أي روح ندّية رفعها مهاتير محمد، أو برزت في التجربة الماليزية، فالسواعد التي كانت تقصف جزر الأرخبيل الماليزي قروناً، وتبيد الفلاحين المقاومين، هي القلوب ذاتها التي تحقد على أي بارقة أمل للشرق وتعمل على خنقها.

ولكن مركز الفكرة هو في روح أنور المتدفقة، بين ثنائية الإيمان والتبتل التي كانت، كما يقول، كنزاً له في سجنه وغربته ومحنته، وبين عبور أنور محنته بقراءة دقيقة، جمعت المكتبة الإسلامية مع خلاصات الفلسفة الغربية، وتأملت كثيراً في مفاهيم صنّاع النهضة الآسيويين ومفكّريها، وكأنك حين تقرأ أسطره تشعر بأن روحه تتفجر بكل عزيمة وإخلاص، بالبعث الإسلامي التقدّمي الذي تُنقذ به آسيا. ومع ذلك كله، يُذكّر أنور نفسه في هذه الرسالة بأزمة العقل المسلم المعاصر، ويؤكّد بقوة أن المعنى الأخلاقي العميق، والغزارة الروحية المتدفقة لقيم الإسلام، والإيمان بكلياته التشريعية، كمنظومة عدالة وتنمية وحقوق، لا تُصنَع من خلال الادعاءات ولا الخطابات المنبرية المزيفة للسياسيين، مستشهداً بحادثة وقعت خلال زمن رسالته، حين خالف الخطيب السياسي في مجلسه الخاص الذي صُوّر وسرّب، ما كان يقوله عن المنبر، وطعن في القيم الإسلامية وسخر من العلماء الذين جالسهم، لأنه، بحسب أنور، كان يحابي لحماية مشروع فساده.

ولا نعرف هل يخترق أنور أم يحترق، لكنني أقول إنه إنْ أُقصي، وقد حافظ على هذه الروح، لن يضرّه الفشل، فالقبس المهم الذي نفتقده في الشرق المسلم هو الإيمان بالقيم التي تخلق العدالة والنزاهة، وهو إيمان قلوبٍ ثم عجلة عمل وتضحية، لا منابر صراع للتزكية الدينية المزيّفة.

مقالات ذات صلة