في التذكير بأهمية النظر الفلسفي

كمال عبد اللطيف

حرير- احتفل العالم يوم 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي باليوم العالمي للفلسفة، وتجلت مظاهر الاحتفال في اللقاءات والحوارات ومختلف أشكال النشاط الثقافي التي خُصِّصت لإبراز أدوار الفلسفة ومآثرها في التاريخ وفي الحاضر. وشكّل اليوم المذكور مناسبة ثمينة من أجل مزيد من التحسيس بمكاسب الفلسفة وفضائلها. ومن يتابع صور الاحتفاء المتنوّعة في الجامعات والمنتديات الثقافية في بلدان كثيرة يتبين التنوع الكبير في مظاهر وصور الاحتفاء، حيث تحرص بعض المنتديات على العناية بتحوّلات دروس الفلسفة في التاريخ، ويتّجه بعضها الآخر إلى معاينة الصعوبات والعوائق التي ما تزال تقف حائلاً، من دون توطين مكاسبها ومنجزاتها وتعميمهما في مجتمعات أخرى.. الأمر الذي يساهم في توسيع دوائر الاهتمام بأخلاق السؤال وقيم النظر الفلسفي في التاريخ.

لا تكتفي المنتديات المهتمة بالفلسفة بالاحتفاء النمطي بأسئلتها ومفاهيمها وأنظمتها في النظر، وبمختلف الآفاق التي رسمت وما تزال ترسم في التاريخ، بل يذهب بعضها بعيداً، فيدشّن في عيدها السنوي آفاقاً أخرى، تتم في بعضها مراجعة بعض قضاياها وأسئلتها ومفاهيمها، وتتجه، في بعضها الآخر، إلى جعل الفلسفة تنفتح على أسئلة وموضوعات لم تكن مَحَلّ نَظرٍ في تاريخها، الأمر الذي يوسع مجال البحث الفلسفي، ويدفعه إلى اختراق جدران وولوج أبواب ودروب جديدة، وذلك في توافق وانسجام مع روح الفلسفة ومع الفضائل الكبرى التي صنعت خلال تاريخها الطويل والمتواصل.

اليوم العالمي السنوي للفلسفة مناسبة للوقوف على مظاهر تَحوُّلِها وأسئلته، ومناسبة، أيضاً، للنظر في أشكال حضورها اليوم في مختلف المعارف والعلوم والتقنيات، فمن مزايا دروس الفلسفة في التاريخ قدراتها اللامحدودة على بلورة الأسئلة والمفردات التي تمكّنها من بناء الحدود وإعادة بنائها، ورسم الآفاق وإعادة رسمها، للتمكّن من بناء كل ما يساعد على الفهم والتعقل، وكذا نحت المفاهيم والمناهج واللغات وابتكارها.. ويحصل في هذا اليوم كذلك نوع من التفاعل بين التحولات الجارية في الفلسفة والتفكير في كيفيات مواصلة تفعيل أدوارها في التاريخ.

شكَّل اليوم العالمي للفلسفة في الثقافة العربية إطاراً مناسباً لمواجهة خصومها من المتشبثين بحصون الفكر المحافظ، وانخرطت منتديات ثقافية عربية في الاحتفاء بدرس الفلسفة وبمختلف الآفاق التي يَفتحها في الفكر العربي المعاصر. وقد عُقِدت بمناسبة الاحتفال بهذا اليوم ندوات، كما قدّمت محاضرات ساهمت بإبراز أدوار الفلسفة والفكر الفلسفي، في تفكيك الوثوقية ونزعات الفكر القطعي. كما اهتمت محافل أخرى بتوضيح دور أسئلة الفلسفة ومناهجها في نقد التطرف والانغلاق، ومختلف نزعات الفكر المحافظ. وتَمّ، في سنوات أخرى وبالمناسبة نفسها، ربط احتفالات اليوم العالمي للفلسفة بمبدأ الدفاع عن مبدأ تعميم تدريسها في المدارس والجامعات العربية وفي مختلف التخصّصات المعرفية، كما هو عليه الحال في مجتمعات غربية كثيرة، حيث تُلقن دروسها في أقسام الآداب والعلوم ومختلف الفنون والصناعات.

لم تشترط اليونسكو أن يكون موضوع الاحتفاء باليوم العالمي للفلسفة واحداً موحداً، وهي تقترح كل سنة موضوعا أو مجموعة موضوعات، لفتح نقاش وحوار يساهم في تطوير (وتنويع) المواقف والخيارات في الموضوعات المقترحة. وبجانب ذلك، كانت جامعات ومنتديات كثيرة في العالم تقترح بدورها موضوعات أخرى للحوار. وقد ارتبط الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة في عالمنا العربي بربط الفلسفة بالعقلانية والنقد والتنوير. وأتصوَّر أن الأمر لم يكن يتعلق في عمليات الربط المذكورة بنقل نماذج في الفكر والمعرفة أو نسخها، قَدْر ما كان يتعلق بمساعٍ، تتوخّى التَمَكُّن من الوسائل والأدوات وأنظمة النظر التي تتيح إمكانية ولوج أبواب العقلانية والأنوار.

لا نتردّد في إضافة محاور أخرى لمواصلة التفكير في أدوار الفلسفة في الحاضر العربي، من قَبِيل إبراز أهميتها في دعم المشروع السياسي الديمقراطي، وأخلاق المواطنة والحوار. وإذا كنا نؤمن بأن الديمقراطية ثقافة وحوار، أدركنا أهمية الاستعانة بدروس الفلسفة السياسية، من أجل تغيير ثقافتنا ومجتمعاتنا وتطويرهما. ونتصوّر أن اليوم السنوي الرمزي المخصص للاحتفاء بالفلسفة، والاحتفال بالفعالية النظرية للإنسان في التاريخ، يتيح لمجتمعاتنا التي يكتسح الفكر المحافظ برامجها التعليمية، وتنتشر في ثقافتها كثير من الأحكام والمواقف القطعية والمغلقة. والدعوة هنا إلى توسيع دوائر هذا اليوم ومجالاته، قصد مواصلة التذكير بأهمية النظر الفلسفي في حياتنا. وإذا كنا نعتبر أن الفلسفة قد عملت على توسيع مجالات النظر وتنويعها، فإن ما يترتب على ذلك اليوم، ونحن نحتفل بمكاسبها في التاريخ، أن نواصل التدريب على فنون النظر الفلسفي وأشكاله، نَظَرِ العين الرَّائية ونَظَرِ عين العقل المُبصِرة .. علينا مواصلة التدريب والتمرّس بالجمع بين البصر والبصيرة، وبالفلسفة وحدها نتمكّن من ذلك ونُحَقِّقُه، فقد يساعدنا في عمليات التخلص من أوهامٍ كثيرة، ويُسعفنا بالاقتراب من ولوج أبواب الحرية والإبداع.

يَحْفَل تاريخ الفلسفة بآليات في النظر ساهمت في بناء المدارس والمذاهب، كما أنتجت الأحكام والمواقف، وهو يمتلئ بالمؤلفات النسقية والمذاهب، كما يمتلئ بالحِكَم والشذرات .. وقد تعايشت في تاريخه المصنّفات الكبرى مع مصنّفات النصوص الصغيرة والمواقف، التي تنتصر للصمت أو تكتفي بالإشارات واللُّمَع .. ويمكن أن نضيف، أيضاً، أن رصيد تاريخ الفلسفة منذ حكمة الأوائل يستوعب كثيراً من التنوع والتكامل، وكثيراً من التناقضات والمراجعات، كما يستوعب أشكالاً من النقد والنقد المضاد .. والنَّظر فيه لا يتردّد في الجمع بين نعم ولا، حيث التنسيب مطلب مُلَازمٌ للفكر في التاريخ.

تُعَدّ حاجة الثقافة العربية اليوم إلى دروس الفلسفة ضرورية وملحّة، إنها تمنحنا أدواتٍ للنظر في مآزقنا التاريخية وأسئلتنا السياسية، كما تساعدنا في عمليات مواجهة سطوة (وهيمنة) الفكر المحافظ، التي تحاصر أوجُه النظر العقلي والتاريخي في ثقافتنا .. نحن في حاجة إلى مواصلة توطين أدواتها في النظر، والتدريب على قيمها في مجتمعنا، في المدرسة والجامعة، وفي مؤسّساتنا الثقافية والسياسية .. وقد تضاعفت اليوم هذه الحاجة، بفعل الحضور الواسع لمنتوج فضاءات التواصل، الذي يساهم اليوم في نشر (وتعميم) بلاهات وأحكام ومواقف كثيرة يتسع انتشارها كل يوم في محيطنا الثقافي، ويدفعنا إلى توسيع أشكال احتضان دروس الفلسفة وأسئلتها في ثقافتنا ومجتمعنا.

مقالات ذات صلة