لاجئون يلبسون عريهم أمام عورة العالم آراء سوسن 

سوسن جميل حسن

حرير- جاء في الشعار الشامل لليوم الدولي للقضاء على الفقر، للعام 2022 – 2023، الذي صادف في السابع عشر من شهر تشرين الأول الجاري: ليست كرامة الإنسان حقًّا أصيلًا وحسب، بل هي الأساس لكل الحقوق الأساسيّة الأخرى، ولذا هي ليست مفهومًا مجرّدًا، فهي حقّ إنساني لكل فردٍ على هذه البسيطة. وإذا عرفنا أن أكثر من مليار وثلاثمئة ألف فرد يعانون اليوم من الفقر في العالم، وأن عدداً من هذه المليارات يشكّل ما يقارب التسعين بالمئة من شعوبنا المنكوبة، ومنهم في سورية، ونظرنا إلى خريطة العالم المشتعلة بالحروب والتدمير وبيع الأسلحة والتهجير، فإن من الطبيعي أن يكفر أي فرد بهذه الشعارات والمواثيق الخلبيّة المضلّلة.

الفقر من أهم أسباب انتهاك الكرامة الإنسانية، فكيف إذا اقترن بانتهاك الحقوق الأخرى؟ ليس أكثر من الأمثلة والبراهين الصادمة عن معاناة الشعب السوري، خصوصاً في السنوات العشر الأخيرة، منذ بدّده الرصاص، فأخذ كثيرون منه يهيمون على وجوههم من دون وجهة، فأمام الموت لا يملك الإنسان ترف الاختيار، إلى أن أصبحت البحار أكبر مقبرةٍ للسوريين، مقبرة من دون شواهد للقبور، من دون ذاكرة، فيها امّحت الهوية، فصار القبر شاهدةً كبيرةً اسمها السوري الهارب من موته إلى موته، أمام أعين العالم كلّه.

دأبت المحطات والوسائط كلها على عرض أحوال السوريين الفارّين، على عرضهم يقيمون في المؤقّت من أعمارهم، وأعمارهم تنسلّ من بين أيديهم، ومن حنايا صدورهم ومغارات أحلامهم، وصاروا يُسامون في بازارات السياسة، من دون رحمة أو احترام للكرامة الإنسانية التي تنادي بها شرعة حقوق الإنسان، وتدّعي المنظمات الأممية والحقوقية في العالم أنها تحميها، لكن الكرامة تُنتهك وتُستنزف، ومعها الحياة، وجديدها أخيرا ذلك المشهد الصادم المهين الذي تناقلته المحطات والمواقع، لاجئون يُجبرون على عبور نهر إيفروس الفاصل، بين تركيا واليونان، عراةً، إنما للحق، أعربت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، في تغريدة على “تويتر”، عن “قلقها العميق من التقارير والصور الصادمة لـ 92 شخصًا، قيل إنه عُثر عليهم على الحدود البرّية اليونانية التركية، وقد جُرّدوا من ملابسهم”، اليوم، ينشغل العالم بقضية أكبر وأهم، هي الحرب الروسية على أوكرانيا، وتداعياتها، وقضية اللاجئين الأوكرانيين.

زاد هذا المشهد في احتدام التراشق بالاتهامات بين الجانبين، التركي واليوناني، ودخل السوريون مرة أخرى في بازارات السياسة، تراشق لا يوفر مناسبة ولا منبرًا، وجديدها أخيراً كان في نهاية الشهر الماضي ( أيلول)، إذ اتهم الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، خلال خطاب في مقرّ الأمم المتحدة، اليونان بتحويل بحر إيجه إلى “مقبرة” عبر “سياساتها القمعية”.

في المقابل، لا يمكن غضّ النظر أيضًا عن المضايقات التي يتعرّض لها السوريون في تركيا، خصوصا في الشهور الماضية، وهي في الحقيقة لم تتوقف منذ سنوات، كما أن قضية اللاجئين السوريين تقع في قلب الحراك السياسي في تركيا، والنزاع على السلطة، واستخدامه أداة في الأجندات والترويج للحملات الانتخابية، عدا كون اللاجئين ورقةً بيد تركيا، تستخدمها في مواجهة الاتحاد الأوروبي.

حصلت هذه الواقعة المخزية والمهينة بحق الإنسانية، قبل أيام ثلاثة من انطلاق المؤتمر “الدولي” حول “عودة اللاجئين” بنسخته الخامسة بدمشق 2022/10/17، وهو اجتماع سوري ـ روسي، بمشاركة وفد روسي برئاسة المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سورية، ألكسندر لافرنتييف. وبحسب التغطية عنه في صحيفة مقرّبة من النظام، “انعقد اجتماع عمل ضم ممثلي جامعة ستانكين الروسية الحكومية والمعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا، وأكّد رئيس جامعة ستانكين الروسية، في تصريح، إنه يمكن التعاون في التشغيل الميكانيكي للمعادن وتطوير مواد جديدة ومواد حماية، وأنظمة عمل تكنولوجية جديدة. كما تم في جلسات اليوم الأول من أعمال المؤتمر انعقاد اجتماع عمل لممثلي حكومة جمهورية القرم ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي في الجمهورية العربية السورية”. فأين هي قضية اللاجئين من هذه الفعاليات؟ ربما نرى ما يشير إلى “دعم الشعب السوري”، الفائق، في نهاية الخبر الذي يفيد بأن “في إطار فعاليات متابعة عمل المؤتمر، سيقوم الجانب الروسي بعدد من النشاطات الإنسانية، حيث سيجري توزيع مساعدات إنسانية بالمركز الثقافي الروسي بدمشق، وكذلك في منطقة حلفايا في محافظة حماة، وتوزيع مساعدات مماثلة في مشفى النهضة بحمص، كما سيقوم الجانب الروسي اليوم بزيارة ميدانية إلى بلدة معلولا لتسليم مساعدات لدير مار تقلا وهي عبارة عن معدات كهربائية قائمة على الألواح الشمسية”.

يمكن العودة عامًا إلى الخلف، للوقوف على ما قاله لا فرنتييف نفسه، في المؤتمر الدولي لعودة اللاجئين بدورته الرابعة في دمشق: “أولوية أعمالنا المشتركة تحقيق استتباب الوضع والاستقرار في سورية، لخلق ظروف مواتية لعودة اللاجئين، ومن أجل ذلك تبذل روسيا وسورية جهوداً كبيرة في هذا الشأن، حيث نفذتا حزمة من الأعمال في مجال إعادة إعمار البنى التحتية واستعادة عمل الخدمات الأساسية”، مضيفاً أن روسيا ستواصل تقديم المساعدة للشعب السوري بهدف تحسين الوضع الاقتصادي والإنساني، وهناك كثير من العمل الدائب في هذا المجال مستقبلاً. لكن البنى التحتية شبه معطلة في سورية، والبراهين كثيرة من قلب معاناة الشعب.

كان هذا قبل بداية الحرب الروسية الأوكرانية، وقبل أن يدخل العالم في مباراة كسر عظم، تجريها الدول القوية فيما بينها، وتدفع شعوب الأرض ثمنها، فلا يسلم منها حتى شعوب تلك الدول القوية، التي بدأ رخاء حياتها يتحوّل إلى تهديدٍ بالتقشّف وضيق الاختيارات والتهديد بالفقر أيضًا، لكن الفارق أن حكومات هذه الشعوب تدير آذانها وتوجّه أنظارها إلى شعوبها، وتلتئم باستمرار كما لو أنها خلية أزمة كبيرة، من أجل دراسة التحوّلات والتغيرات والاضطرابات والاحتجاجات، من دون أن تغفل عن اقتصادها وكيفية حمايته.

ليس في الأفق ما يبشّر بموعد قريب للخلاص، بالرغم من المخاطر الواضحة كوضوح الشمس، وبالرغم من أن مراكب الموت صارت تلقي بحمولاتها من الغارقين قريبًا جدًا من شواطئ الرحيل، فالانهيارات متسارعة، والأنظمة الغارقة في فسادها صارت غارقةً في عجزها، لا تملك ما تعد به غير الأوهام، ضاربة عرض الحائط بكل صرخات الجوع وانعدام الأمن في كل مجالات الحياة، فإذا كان البحر قد ألقى جثث الغارقين من السوريين واللبنانيين في الشهر الماضي ( أيلول)، على شواطئ طرطوس السورية، قد شغل العالم، أكثر من حكومة البلدين بالطبع، ثلاثة أيام أو أربعة، فإن صور اللاجئين العراة، وعلى أجساد بعضهم آثار عنف، لم يشغل العالم أكثر من يوم، ولم تهتم الحكومة به.

في المقابل، تستعدّ ألمانيا، التي استقبلت ما بين العامين 2015 و2016، حوالي المليون وربع المليون من طالبي اللجوء الفارين من جحيم بلدانهم، لأكبر موجة لجوء على خلفية الحرب الأوكرانية، وسوف تستمر محاولات الهروب إليها من جحيم سورية، عبر طرق الموت، إذ تفيد الإحصائيات بأن السوريين ما زالوا يشكّلون الشريحة الأكبر بين الواصلين عبر تلك الطرق، فلا الحياة في الداخل باتت تُحتمل، ولا في دول الجوار التي تضيّق عليهم، بل وعملت على إرجاعهم على دفعات، إن كان من تركيا إلى الشمال السوري، الذي يعاني هو الآخر من الاقتتال وسطوة هيئة تحرير الشام على معظم مناطقه، أو لبنان الذي وعد رئيسُه بالعمل على إرجاعهم إلى سورية، وهذا كله من دون أي مشروع تتفق عليه القوى الكبرى، أو الإقليمية، من أجل تلك العودة. لكن المؤتمر الدولي السوري الروسي التأم في دورته الخامسة بشأن عودة اللاجئين، إنما لم يحدّد أي الطرق ستكون أقل موتًا، وأقل إذلالًا. الحقيقة أن هؤلاء اللاجئين العراة هم افتضاح لعورة ضمير العالم وضمير الأنظمة، أمّا عريهم فهو أنبل ما يمكن أن يرتديه إنسان يصرخ في وجه الحروب والظلم والجبروت، ولا يطمح بأكثر من فسحة حياة على مساحة عمره.

مقالات ذات صلة