عشرون عاماً على الغزو الأميركي للعراق … مآل الجبروت

أسامة أبو ارشيد

حرير- أعلن الرئيس الأميركي الأسبق، جورج دبليو بوش، في 19 مارس / آذار، 2003، بدء الغزو الأنغلوسكسوني للعراق، من دون تفويض من مجلس الأمن، في عدوان وصفه الأمين العام للأمم المتحدة، حينئذ، كوفي عنان، حرباً “غير شرعية”. لم تمض سوى ثلاثة أسابيع حتى كان نظام الرئيس العراقي الراحل، صدّام حسين، قد سقط ودخلت القوات الأميركية – البريطانية بغداد. وعلى مدى الأشهر التالية، كانت المزاعم الأنغلوسكسونية الكاذبة، التي بُرِّرَ بها العدوان، تتهاوى واحدة تلو الأخرى، فلا هم وجدوا أسلحة دمار شامل، ولا هم تمكّنوا من إثبات علاقة نظام صدّام بـ”الإرهاب العالمي” وتنظيم القاعدة. لكن ذلك كان بداية القصة فحسب، إذ دفعت التداعيات المتلاحقة على الولايات المتحدة، حينها، خبراء أميركيين كثيرين إلى وصف قرار غزو العراق بأنه أكبر كارثة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في السنوات الثلاثين الأخيرة.

وقتها، غرقت أميركا في “مستنقع الوحل” العراقي بعد انطلاق المقاومة الشعبية التي استنزفتها استراتيجياً ومعنوياً وعسكرياً واقتصادياً. أدّى سلوك البلطجة الأميركي، حينها، إلى خسارة الولايات المتحدة للقوة والتأثير والمكانة والسمعة عالمياً. كما أسهم في تدهور الاقتصاد الأميركي ودخوله ركوداً عميقاً ما بين أعوام 2008 – 2011. فضلاً عن أنه استهلك القدرات العسكرية والدبلوماسية والمالية الأميركية، وسمح بتنامي القوة والتأثير والنفوذ الصيني في فضاء شرق آسيا تحديداً، في ظل الانشغال الأميركي في حرب عصاباتٍ وشوارع لم تعتد عليها قواتها من قبل. ليس هذا فحسب، بل إن واشنطن لم تحصل على عقود تفضيلية في سوق النفط العراقية، ولم تتمكّن من ضم العراق إلى خانة حلفائها في المنطقة، ذلك أن العراق، منذ احتلاله، أصبح ساحة نفوذ إيرانية، باعتراف الأميركيين أنفسهم، محطّمة بذلك (أي الولايات المتحدة) توازن القوى في الخليج العربي لصالح إيران.

على الصعيد العسكري، استنزفت القوات الأميركية ما بين أعوام 2003 – 2012، بشكل رهيب، إذ خدم مليون جندي في العراق، قتل منهم أكثر من 4600 (عدا من صنّفتهم وزارة الدفاع “مدنيين متعاقدين”، وقتل منهم مئات)، وأصيب أكثر من 32000. قد يقول قائل إن هذه أعداد ضئيلة إذا ما قورنت بمئات آلاف القتلى والجرحى العراقيين، وهذا صحيح. لكن العراقيين فُرضت عليهم الحرب ولم يختاروها، وثانياً، الأرقام الأميركية مضلّلة من دون سياقها السليم، ذلك أن العاهات والأمراض النفسية التي خلفها العدوان على العراق بين صفوف المقاتلين الأميركيين أكبر من أن تختزل هنا، ويكفي أن تعلم أن فاتورة العناية بهم حتى عام 2050 ستكلف خزينة الدولة 233 مليار دولار. أما تكلفة الحرب الإجمالية فقد وصلت إلى حوالي تريليوني دولار، وفي عام 2050 يتوقع أن تتجاوز ثلاثة تريليونات دولار. وهناك تقديرات أخرى تضع التكلفة الكلية بحدود الثمانية تريليونات دولار، إذا ما احتسبت الفوائد.

وإذا كان خبراء أميركيون اعتبروا، قبل 20 عاماً، أن قرار الغزو كان أكبر كارثة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في السنوات الثلاثين الأخيرة، حينها، فإن المسؤولين الأميركيين يذهبون اليوم إلى أبعد من ذلك. ألم يعزُ الرئيس الحالي، جو بايدن، ووزير دفاعه، لويد أوستن، صعود الصين ووصولها إلى مرحلة منافسة الولايات المتحدة جيوسياسياً إلى انشغال واشنطن في حروب “الشرق الأوسط”؟ هذا جزء أساسي من الحقيقة، وهي ضريبة التجبر والجبروت الذي مارسته الولايات المتحدة، ولكن أثمانه كانت كارثية، فهي في المحصلة، وإن كانت القوة الأعظم، إلا أنها ليست قوة مطلقة لا تخضع لنواميس الكون والزمان، وهو أمرٌ كان تنبّه إليه من قبل الرئيس الأسبق، باراك أوباما. في هذا السياق، ثمّة خطابان لأوباما يؤكّدان المعطى المشار إليه آنفاً أن الولايات المتحدة التي وصل إلى سدّة حكمها عام 2009 هي غير الولايات المتحدة التي تسلمها بوش عام 2001. ومن ثمَّ هي لم تعد تملك الإمكانات والقدرات ذاتها عالمياً التي كانت تمتلكها من قبل، كما أنها لم تعد تتمتّع بذات النفوذ غير المحدود.

جاء الخطاب الأول في ديسمبر / كانون الأول 2009 أمام الأكاديمية العسكرية الأميركية، ويست بوينت، في نيويورك. في ذلك الخطاب، قال أوباما: “كرئيس، أرفض أن أضع أهدافا تتخطّى مسؤولياتنا وإمكاناتنا ومصالحنا. وعليَّ أن أوازن بين كل التحدّيات التي تواجه أمتنا. أنا لا أمتلك ترف التركيز على تحد واحد فقط”. وأضاف منتقداً بشكل ضمني سياسات إدارة سلفه بوش: “على مدى السنوات العديدة الماضية فقدنا ذلك التوازن. لقد فشلنا في تقدير العلاقة بين أمننا القومي واقتصادنا”. الخطاب الثاني ألقاه أيضا أمام الأكاديمية نفسها في مايو/ أيار 2010 وقال فيه: “على مرَّ تاريخ البشرية، لم تتمكّن أمة تعاني من تراجع حيويتها الاقتصادية أن تحافظ على تفوقها العسكري والسياسي”. مضيفاً “كما لا يمكن أن تقع (المسؤولية العالمية) على كاهل أميركا وحدها. يرغب خصومنا أن يروا أميركا تفرّط في استخدام قوتها”.

اليوم تجد الولايات المتحدة نفسها وجهاً لوجه مع المارد الصيني الذي غفلت عنه، لا من منطلق أوهام “المحافظين الجدد” فحسب، بل من منطلق غرور القوة كذلك. وكما قال وزير الدفاع الأميركي، أوستن، في مثل هذا الشهر عام 2021، إنه بينما ركّزت الولايات المتحدة على الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين، “عملت الصين على بناء قدرة عسكرية حديثة”، وهو ما أدّى إلى تآكل ميزة الولايات المتحدة التنافسية عسكرياً، وإنْ كانت “لا تزال متفوّقة (على الصين)”.

الدرس الذي يبدو أن الولايات المتحدة لم تستوعبه من 20 عاماً بعد أن جبروت القوة قد تكون خطوة نحو النهاية، أو حتى مقدّمة لعدالة السماء. وها هي روسيا تقع راهناً في الفخّ نفسه في أوكرانيا، وهي التي لم تتعلم من درسٍ سابق بالقسوة ذاتها من غزو أفغانستان، زمن الاتحاد السوفييتي، عام 1979، في حين يبدو أن الصين أكثر تمهلاً مع تايوان، وإنْ لم يعن ذلك أنها قد لا تنزلق إلى المستنقع نفسه.

مقالات ذات صلة