الجنون التلفزيوني… بروين حبيب

يقال أنّنا في ثقافتنا العربية نحترس في الغالب حتى لا نجرح الجمهور في برامجنا التلفزيونية، نحترس أيضا حتى لا نخدش الضيوف حياء في أمور كثيرة تلامس حياتهم الخاصة والحميمة. لكن هذا الأمر تجاوز حدوده في البلدان الأجنبية. وقد قيل أنّ عملية اجتذاب الجمهور شبيهة بالمغامرة التي قد لن تُحمد عقباها. ولهذا ربّما يتأرجح منتجو البرامج التلفزيونية بين انتاج ما هو مُملّ فيمرُّ مرور الكرام دون إحداث أي ردة فعل من المشاهد، أو العكس تماما مثلما حدث مع برامج الشهير «رامز» مثلا والتي انتهت نهاية بائسة.

عن أكثر البرامج التلفزيونية جنونا في العالم، والتي حققت جماهيرية كبيرة، لكن بالمقابل كانت لها تأثيرات سيئة إمّا على أصحابها أو على الجمهور أو على الضيوف الذين ظهروا فيها، اشتهر برنامج غريب حمل عنوان «من هو والدك» وقد تم بثه على قناة فوكس الأمريكية العام 2005. في أول حقلة وقفت امرأة شابة اسمها تي جي مايرز أمام خمس وعشرين رجلا متّبعة احساسها فقط لتعرف من هو والدها الحقيقي الذي لم يسبق لها أن عرفت عنه شيئا، وبعد فحص «DNA» وطول انتظار على مدى تسعين دقيقة كشفت الحقيقة فربحت مئة ألف دولار وهذا هو الجانب الأكثر إثارة في البرنامج الذي أوقف بعد بث هذه الحلقة الأولى، فيما تم إلغاء باقي الحلقات التي تم تصويرها، والسبب كمُّ الشتائم التي انهالت على معدي ومقدمة البرنامج طيلة زمن بثّه، إذ اتضح جليا أن نسبة المشاهدة العالية أحيانا لا تكون بسبب الإعجاب بل بسبب النقمة على ما يقدَّم. البرنامج حرّك جمعيات حقوقية تهتم بالأطفال وبالتبني، معتبرة ما قُدِّم غير إنساني، وأنّه تجاوز في قسوته ما يمكن ان يتحمّله الجمهور.
من أغرب البرامج أيضا ما قدمه التلفزيون الدّانماركي تحت عنوان «زواج من أول نظرة» وهو برنامج يجده الغرب غريبا لكنّه بالنسبة لنا فهو أمر مألوف بُنيت عليه أغلب زيجاتنا، والتي في الغالب تبقى صامدة تحت الضغوط الاجتماعية لكن خلل الانفصال يصيبها في الدّاخل.
المرشّحون في البرنامج يستسلمون لقرار الزواج من طرف خبراء في علم النّفس وعلم الاجتماع، وكأنّهم يقلّدوننا تماما بحكم أننا نملك هذا النوع من الخبراء في كل بيت! يعقد القران بشكل رسمي وهكذا يجد المتطوعان نفسيهما ضحية زواج مدبّر يعدهما بحياة رغيدة، فيسافران في شهر عسل ويبدآن

بإكتشاف الحياة معا، وأهم شيء أنهما يكتشفان نفسيهما وكلٌّ منهما يكتشف الآخر بعد أن تعارفا سابقا فقط بالنّظر.
الصّدمة الكبرى أن نظريّات الخبراء والمختصين سقطت في القاع تباعا، فبعد ثلاثة أسابيع فضّلت الأغلبية الطلاق، وكل ذهب في حاله، واتضح أن سلوك الإنسان أعمق وأكثر تعقيدا من كل الدراسات والأبحاث، كون التجربة الإنسانية قد تتكرّر في أمور لكنها في العلاقة الزوجية تصبح فريدة من نوعها في كل حالة زواج.
البرنامج الذي نال نسبة مشاهدة عالية، أيضا نال نسبة عالية من السخرية، حتى أن الصحافة علّقت أن هذا الزواج من أول نظرة يليه طلاق من ثاني نظرة! في كل موسم كان ينجو مشاركان فقط بزواجهما، أمّا البقية المغامرة بحثا عن شريك يحقق لهم الاستقرار العاطفي فلم يعيشوا سوة تجربة فاشلة أخرى في تاريخهم العاطفي، ولعلّ امتيازات هذا الطلاق أنه لم يكن مبنيا على الحب والخيانة وخيبات الأمل، بل كان مجرّد تجربة تحضّر لها الطرفان نفسيا سلفا.
استثمر منتجو البرامج التلفزيونية المجنونة في العلاقات البشرية الحساسة (الحب، الزواج، العائلة..إلخ) لكن معالجتها كانت كارثية أحيانا، كونها لا تقرأ العواقب. يوّفر التلفزيون من خلال هذا النوع من البرامج ما توفّره النميمة والتجسس على الأقارب والجيران من متعة، لكنّ هذا لا ينجح دائما، كونه مرتبط بوعي الجمهور، ونوعية ما يميل إليه من أخبار وحكايات.

ما يلزمنا فعلا هو الإثارة الفكرية المستمرة، ومناقشة الأفكار الجديدة، إذ وحده إعمال العقل ينقذنا من متاهة التّفاهة هذه. ولا بأس من برامج الترفيه والتسلية دون مبالغة في إثارة الجمهور لأنّه الفخ الحقيقي الذي يجعلنا ننحدر قاع مظلم قد يكون الخروج منه مهمة جد صعبة إن لم يكن مستحيلا.

برنامج الزيجات المدبّرة أنتج عربيا وتم عرضه على إحدى القنوات التي لم أعد أذكرها، وأثبت فشله، وقد كتبت الصحافة تعليقات قاسية بشأنه، فإن كان هذا النوع من الزيجات فاشل لدينا في الواقع، فلماذا تم انتاجه تلفزيونيا؟
برامج كثيرة اهتمت بالبحث عن الأب الحقيقي لشخص متبنى، وأيضا انتهى بحرقة قلب كبيرة ليس فقط بالنسبة للجمهور بل بالنسبة للضيف الذي كان ينتظر أملا ما من صنّاع البرنامج لإيجاد حقيقة جذوره وانتمائه.
أمّا المراهنة على شدّ أكبر نسبة مشاهدة، دون مراعاة المغزى كله ممّا تم تقديمه فهنا يكمن السؤال الأهم.
سنة 2007 عرضت التلفزة الهولندية برنامجا قمّة في الوجع والإنسانية في الوقت نفسه، إسمه «عرض المانحين الكبير» أو «أفضل المانحين» حيث المرشّحون يعيشون أيامهم الأخيرة ولهم القرار لتخصيص بعض أعضائهم

لمرضي يعانون من فترة طويلة ولا خلاص لهم سوى بزرع عضو جديد (كبد، كلى، رئة، أو قرنيات) ولا أدري إن كان بغرض تشجيع النّاس على منح أعضائهم بعد الموت، أو لإرضاء جمهور أصبح يطالب بمزيد من الإثارة؟
الأكيد أن عنصر الإثارة هو المطلوب رقم واحد، وإلاّ لماذا بلغت برامج الألعاب في اليابان على سبيل المثال ذروة الشرّ والقسوة واللاإنسانية؟ كأن تعلّق قطع لحم على متسابقين عراة ويفلت عليهم حيوان مفترس ويطلب منهم الركض لإنقاذ أنفسهم، مع ملاحظة أن البعض انتهى فعلا فريسة بين أسنان الحيوان؟ أمّا الأغرب على الإطلاق فهو برنامج آخر يرمى فيه متسابقان في حلبة ومن ينتصر يأكل الثاني، لكن لا تسألوني كيف يأكله، فقد قرأت الخبر وتمنيت أن يكون مجرّد إشاعة لأن لا عقل يتقبله.
هل يمكن فهم رغبة الإنسان في طلب المزيد من الإثارة؟ ربما نفهم بعض الجوانب، لكنها لا تكفي لتوضيح الجنون الذي بلغته بعض القنوات فقط لإبقاء عيون المشاهدين معلقة بالشاشة، وقلوبهم كذلك.
عربيا أصبحت البرامج السياسية السّاخرة أكثر البرامج إثارة للجمهور، وهي على ما يبدو مسموحة إلى حدٍّ ما مقارنة مع غيرها، لكن المضحك فيها أنها قد تحوّل حياة صاحبها إلى جحيم، إن لم يلتزم بأجندة معينة تفرض عليه، أمّا أكثر البرامج نجاحا خارجها فأعتقد أن برامج الصحة الجنسية تربعت على قمة البرامج المرغوبة، رغم إثارتها للكثير من اللغط والسخط في البداية، مثل برنامجي فوزية الدريع (دكتوراه من جامعة يورك – بريطانيا) وهبة قطب (دكتوراه من جامعة فلوريدا) وهذا النّوع من البرامج مرغوب لكن المتفرّج يتمنى لو يصله بطريقة سرية لا تفضحه حين يتابعه، لهذا السبب ربما نجحت التطبيقات الهاتفية لاستقطاب «جمهور الأنترنت» وهو نفسه الجمهور الذي تخلّى عن التلفزيون لأنّ مقدار الإثارة فيه في تراجع مستمر، مع أن مفهوم الإثارة في حدّ ذاته أصبح نسبيا، فما كنّا نعتقده مثيرا منذ عشر سنوات لم يعد كذلك اليوم، نحن في الحقيقة نتعوّد على الشيء فيصبح مألوفا لدينا فإذا بتلك الإثارة تنطفئ.
ولهذا فإن ما يلزمنا فعلا هو الإثارة الفكرية المستمرة، ومناقشة الأفكار الجديدة، إذ وحده إعمال العقل ينقذنا من متاهة التّفاهة هذه. ولا بأس من برامج الترفيه والتسلية دون مبالغة في إثارة الجمهور لأنّه الفخ الحقيقي الذي يجعلنا ننحدر قاع مظلم قد يكون الخروج منه مهمة جد صعبة إن لم يكن مستحيلا.
وربما في صمود برامج اكتشاف المبدعين والمواهب دليلا على أننا لسنا بحاجة لجنون تلفزيوني لنكسب نسبة مشاهدة عالية، لكننا بحاجة إلى الإبداع، والأفكار الإيجابية، لهذا يكفي أن نستنجد بالمبدعين في كل المجالات لنجد ضالّتنا وننقذ التلفزيون من التدمير الذاتي الذي يتعرض له منذ سنوات

مقالات ذات صلة