
عيونهم زرقاء ويشاهدون نتفلكس
الروائي والكاتب العُماني - سليمان المعمري
“هذه حرب مختلفة، إنها حرب ضد أناس أوروبيين يشبهوننا ويستخدمون نتفلكس وإنستغرام، وليست حربًا ضد بلاد بعيدة وفقيرة”، هكذا وصف دانيال هانان السياسي السابق في حزب المحافظين البريطاني لصحيفة “التلغراف” البريطانية الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة منذ أكثر من أسبوعين، ولا تزال إلى اليوم مالئة الدنيا وشاغلة الناس في كل أنحاء المعمورة. أما ديفيد ساكفاريليدزي نائب المدعي العام الأوكراني السابق فقد عبّر لـ”BBC” عن حزنه لما يتعرض له الأوكرانيون من مأساة بهذه الكلمات: “مؤثر للغاية بالنسبة لي، لأنني أشاهد أوروبيين بعيون زرقاء وشعر أشقر يتعرضون للقتل”!.
لا اعتراض من هذين السياسيّيْن الأوروبيَيْن إذن على الحرب مادامت ستُشّنّ “ضد بلاد بعيدة وفقيرة”، وما دام ضحاياها سيكونون من ذوي العيون السوداء والشعر الفاحم، المهم لديهم ألا تصيب الرجل الأبيض المتحضر ذا الشعر الأشقر. وإذا كانا قد عبّرا عن ذلك تلميحًا لا تصريحًا، فإن الكلام الصريح الواضح الذي لا يقبل التأويل سيكون من قِبَل شارلي داغاتا موفد قناة “سي بي إس نيوز” الأمريكية إلى أوكرانيا، الذي قال حرفيًا في رسالة مباشرة من هناك: “مع خالص احترامي، فإن هذا ليس مكانًا مثل العراق وأفغانستان اللذين عرفا عقودًا من الحروب. إنها مدينة متحضّرة نسبيًا، أوروبية نسبيًا (…) حيث لا ننتظر حصول أمر مماثل”، هذا الوضوح في العنصرية سيتبدى كذلك في تصريح رئيس الوزراء البلغاري كيريل بيتكوف عندما يصف اللاجئين الأوكرانيين الفارين إلى أوروبا بالأذكياء والمتعلمين والمؤهلين تأهيلًا عاليًا، قبل أن يضيف: “هذه ليست موجة لاجئين اعتدنا عليها، حيث لا نعرف ماذا نفعل مع أناس لديهم ماضٍ غامض، كأن يكونوا إرهابيين مثلًا”، وكأنه يذكرنا بتاريخ طويل من عنصرية الرجل الأبيض ضد لاجئي الشرق الأوسط وأفريقيا، لم يكن آخره قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قبل خمس سنوات بمنع دخول اللاجئين السوريين إلى الولايات المتحدة، واصفًا إياهم بالإرهابيين. كلا النوعين من اللاجئين -السوريين والأوكرانيين- كانوا فارّين من الحرب والأوضاع غير الآمنة في بلديهما، وكلاهما يستحق أن يًقدَّم له المأوى والحماية والعيش الكريم، لكن اللاجئين السوريين لسوء حظهم لم تكن عيونهم زرقاء، ولا أظنهم يشاهدون “نتفلكس”!.
تعليقات الإعلامي الأمريكي والسياسيين الأوروبيين لا تختلف كثيرًا عن تصريح الأمير وليام دوق كامبريدج بأن “البريطانيين اعتادوا أكثر على رؤية الصراع في أفريقيا وآسيا”، وأنه “أمرٌ غريب جدًّا رؤية هذا الأمر في أوروبا”!. الغريب جدا في الواقع هو تعليق الدوق، لأنه تعليق الجاهل بتاريخ بلاده، التي لم تكتف بخوض حروب كثيرة مع جيرانها الأوروبيين، بل إنها افتعلت أيضًا حروبًا أكثر منها في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، لا لشيء إلا لتضمن الهيمنة الدائمة عليها ونهب خيراتها. نسي الأمير ذلك مثلما نسي موفد الـ”سي بي أس نيوز” أن بلاده، الولايات المتحدة، هي التي دمرت العراق وأفغانستان خلال الثلاثين سنة الماضية، واحتلتهما بالحجة الكولونيالية نفسها: نشر التحضر والتمدن لدى هذه الشعوب “المتخلفة”. ومَنْ منّا ينسى مثلًا جريمة ملجأ العامرية العراقي في فجر الثالث عشر من فبراير عام 1991، عندما قصفت مقاتلتان أميركيتان هذا الملجأ فأوقعتا أكثر من أربعمائة شهيد، بينهم مئتان وإحدى وستون امرأة، واثنان وخمسون طفلًا، أصغرهم لم يتجاوز عمره سبعة أيام.
وفي الحقيقة لم يكن العرب ولا المسلمون ولا شعوب ما يسمى العالم الثالث بحاجة إلى الحرب الروسية الأوكرانية ليعرفوا حجم العنصرية والازدراء والدونية التي ينظر بها إليهم الرجل الأبيض “المتحضر”، لكنها كانت مناسبة لتعرية الوجه الحقيقي لهؤلاء المنافقين المتشدقين بالإنسانية والحفاظ على حقوق الإنسان والديمقراطية، وهي ليست سوى شعارات وأقنعة يضعونها على وجوههم وقتما يظنون أنهم بحاجة إليها. ونستذكر هنا المقابلة الشهيرة لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت في قناة CBC في الحادي عشر من مايو 1996م عندما سألتْها المذيعة ليزلي ستال: “سمعنا أن خمسمائة ألف طفل عراقي ماتوا حتى الآن، وهذا العدد يفوق عدد الناس الذين ماتوا في هيروشيما وأنتِ تعلمين بذلك، فهل يستحقون ذلك؟”، فكانت إجابة أولبرايت: “أنا أعتقد أن الخيار صعب للغاية، ولكن هل يستحقون ذلك أم لا؟، نعم. أنا أعتقد أنهم يستحقون ذلك”.
نعم. إنهم يستحقون ذلك يا مادلين. لأن عيونهم ليست زرقاء، كما أن “نتفلكس” لم تكن ظهرت بعد في ذلك الوقت.
سليمان المعمري
جريدة عمان. عدد الأحد 13 مارس 2022:
https://bit.ly/3CQycq5



