تِنْذَكَرْ ما تِنْعَاد
شريف أيمن
لم تنسَ ذاكرة الشعب اللبناني وجوه أمراء الدم الذين أشعلوا الحرب الأهلية منذ قرابة نصف قرن، كما نستغرب أن أمراء الدم الذين بقوا على قيد الحياة يمثلون الآن قادة طوائفهم، مثل عون وبرّي وجعجع وجنبلاط؛ والأولان يشغلان منصبي رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، فكيف يمكن لأصحاب المسؤولية الحكومية والحزبية أن يمنعوا الاقتتال الأهلي وقد كانوا محرِّكيه من قبل؟ والأهم أن أطراف التنازع المسلح في الشوارع هم: حركة أمل بقيادة نبيه برّي، وحزب القوات بقيادة سمير جعجع، وقد أفنيا شبابهما في قتل اللبنانيين وقد استبدّ بهما الحنين لإعادة أيام الشباب، وبالطبع انجرّ حزب الله إلى الصراع.
تشير الصورة الأوليّة إلى أن هناك نية داخلية تنطوي على بدء صراع لتغيير التوازنات السياسية في لبنان، ولا يخفى أن ميزان القوة يميل إلى حزب الله، لكن يصعب الجزم بأن غرض هذا الصراع هو جرّ لبنان إلى حرب أهلية ثانية، بل ربما تكون هناك رغبة في إيجاد صراع يسمح بتقليل مساحات نفوذ الأطراف، وهذا يعني أي طرف (سني- شيعي- ماروني- درزي) وليس حزب الله وحده، فالطرف الذي سينجح في الخروج آمنا من هذا المأزق الذي امتزج بالدم، سيزيد من مساحة قوته في القرار اللبناني، لكن أين الإشكال في هذه الصورة؟
تقوم الصراعات العنيفة لأسباب؛ فقد تكون لمجرد إرسال تحذير، وقد تكون لنشر فوضى في منطقة الخصم لينشغل بترتيب أوضاعه بدلا من التطلّع بعيدا عن إطار نفوذه، وقد تكون لردع سلوك، وقد تكون لمجرد حفظ الكرامة بعمل لا يضر الخصم لكنه رد فعل أمام الشعب أو الطائفة، وقد تكون لفرض السيطرة على القرار، وأخيرا قد تكون للاحتلال.
هذه الصور، ما عدا الأخيرة، يمكن أن تجري في النزاعات الداخلية وبالطبع الدولية، لكن هناك أطراف تملك من القوة وأدوات السيطرة بما يمكّنها من فعل سلوك تحكم إطاره وردود الفعل داخله، وهناك أطراف قد تشعل الصراع ولا تقدر أن تتحكم في نتائجه، وهذا هو منبع الخطورة، وأقرب مثال على هذا قيام المملكة السعودية بخوض الحرب في اليمن دون القدرة على إنهائها، ومع الأخذ في الاعتبار فرق القوة بين الطرفين، فإن المملكة وحلفاءها لم يقدروا على تحقيق هدفهم (المعلن) من التدخل وهو هزيمة الحوثيين. ويشبه ذلك التدخل الأمريكي في أفغانستان الذي انتهى بعد عشرين عاما باستلام طالبان السلطة، رغم أن هدف إقصائها من السلطة كان أحد أهداف الغزو عام 2001.
يقترب الوضع في لبنان من هذه الصورة بعد أحداث الطَّيُّونَة وعين الرُّمَّانة، فالأطراف اللبنانية مهما كانت صغيرة يمكنها أن تبدأ الصراع، لكن الأقوى هو فقط من يقدر على كبح الانزلاق في منحدر العنف، ولا يكون الكبح إلا بالتعقّل والتزام مسارات قانونية لردع المنفلتين. وهذا ما لا يبدو، ظاهريا على الأقل، في لبنان؛ فنواب وقادة حزب الله رفعوا سقف خطاباتهم وتهديداتهم ضد القاضي البيطار، وحزب القوات وضع حزب الله في قلب مشهد انفجار مرفأ بيروت باعتباره المسؤول عنه. وبعد الاشتباكات ارتفع سقف التهديدات التي تقول بأن دماء الضحايا “ليست حبرا”، لنصل أخيرا إلى خطاب السيد حسن نصر الله الذي قال فيه إن لديه “مئة ألف مقاتل يحملون السلاح ومدرّبون، ولو تلقّوا إشارة لإزالة الجبال لأزالوها”.
انتصر حزب الله في معركته على العدو الصهيوني، لكنه يحتاج إلى أن ينتصر على نفسه، وهذا نصر شديد الصعوبة، ويتأتّى ذلك عبر آلية واحدة؛ هي أن يتم دمج مقاتلي الحزب في الجيش والأجهزة الأمنية اللبنانية، وتفكيك المليشيات المحلية لباقي الطوائف أيضا. وهذا لن يحصل دون وجود دولة لبنانية وطنية حقيقية لا سيطرة فيها على القرار السياسي من قبل طوائف بعينها أو دول خارجية، ولا يمكن طلب ذلك ببساطة من حزب الله دون وجود ضمانات فعلية وإجرائية تتعلّق بوجود الحزب كتجمع سياسي واجتماعي لا عسكري، وهذا يحتاج إلى خطوات تمتد إلى عشر سنوات على الأقل، تتضمن تغيير البنود الملغّمة في الدستور وعلى رأسها المحاصصة السياسية
قد يرى البعض أن الحديث عن إنهاء الطائفية في لبنان ضرب من ضروب الخيال السياسي، لكن تجارب الحياة لم تفتأ تخبرنا بأن أول الطريق كلمة، وآخره كلمة كذلك؛ فالأولى تشخيص وإشارة وتحذير، والأخيرة دستور وتعاقد، وما بينهما تسير الأمور بين مشاحنات وملاسنات وقتال. وما نرجوه للبنان أن يكون قد اكتفى من القتال، ومرة أخرى لن يحدث هذا بيد قيادات الطوائف، بل بيد أبناء الشعب كله، الذي يعزّ على أنفسنا ما وصل إليه من تفكك وفَاقَة، والذي سمعناه مرارا يئن من الحرب الأهلية عام 1975 ويقول “تِنْذَكَرْ ما تِنْعَاد”.