تحرير فلسطين والدور الإقليمي

حيان

حرير- تشير غالبية الوثائق الفلسطينية السياسية التي صدرت في المرحلة التي أعقبت نكبة 1948 إلى محورية الدور الإقليمي في تحرير أرض فلسطين وشعبها، كما نص قسم كبير من الوثائق السياسية الإقليمية، الرسمية والحزبية، على الفكرة نفسها، انطلاقاً من بعدين، الأول مرتبط بدور الاحتلال الصهيوني في المنطقة، في حين يعبّر الثاني عن مكانة فلسطين وقضيتها في وجدان وأولويات شعوب المنطقة.

لكن، على الرغم من كثرة الشواهد على هذا الارتباط العضوي، نحت حركة التحرّر الوطني الفلسطيني، خصوصاً “فتح”، في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، إلى تبنّي شعار “يا وحدنا”، للدلالة على سلبية الدور الإقليمي الرسمي على حركة التحرّر الوطني الفلسطيني، وتعدّد مظاهر التدخلات الإقليمية المصلحية الانتهازية، التي أدّت إلى تصاعد التوترات والصدمات بين مكوّنات حركة التحرّر، انعكاساً لصراع القوى الإقليمية على مصالحها غير المرتبطة بالقضية الفلسطينية، بما فيها استغلال الورقة الفلسطينية ورقة تسويقية شعبية.

على صعيدٍ متصل، طبّق الاحتلال الصهيوني مبدأ “فصل الساحات” إقليمياً وفلسطينياً منذ بداياته الأولى، كما تجسّد سياسياً في نهج التفاوض المنفرد، الذي سعى الاحتلال من خلاله إلى تطبيعٍ منفردٍ مع كل بلد إقليمي على حدة، من الملف المصري إلى الفلسطيني والأردني والسوري واللبناني، وصولاً اليوم إلى الملفات الإماراتية والبحرينية والمغربية والسودانية والسعودية وغيرها.

كذلك تجسّد هذا المبدأ أمنياً وعسكرياً من خلال تقسيم الجغرافيا الفلسطينية إلى كيانات منفصلة ومنعزلة بعضها عن بعض ميدانياً وقانونياً، وفق قوانين الاحتلال طبعاً، وبعيداً عن نصوص القانون الدولي، لكل منها خصوصيتها الحياتية والاستعمارية، إذ استخدم الاحتلال في كل منها أدواتٍ متباينةً ظاهرياً ومتطابقة جوهرياً، تعمل على إخضاعها بطرقٍ مختلفةٍ، منها مناطق 48 والقدس والنقب والضفة الغربية وغزّة، فضلاً عن فصل الساحات الإقليمية أمنياً وعسكرياً بعضها عن بعض، وعن الساحات الفلسطينية، كالساحات اللبنانية والسورية والأردنية والمصرية.

هدف الاحتلال من خلال هذا المبدأ إلى تقليص مخاطر المواجهة مع الشعوب والقوى التحرّرية الفلسطينية والإقليمية، فبدلاً من مواجهة الكل الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها، تعاملت قوات الاحتلال الصهيوني العسكرية والأمنية مع قطاعات اجتماعية وقوى نضالية مناطقية، يسهل تطويقها وإخضاعها نسبياً، في نابلس وجنين وغزة، وهو ما يحدّ من تشتت قوات الاحتلال الصهيوني أولاً، ويرفع من نجاعة الاعتداءات الصهيونية على هذه المناطق المنفردة ثانياً، ويحدّ طبعاً من خسائر الاحتلال المادية والبشرية ثالثاً.

في مقابل هذه الاستراتيجية الصهيونية، طُرح على المستويين الفلسطيني والإقليمي مبدأ “وحدة الساحات”، بغرض إفشال المخطّطات الصهيونية أولاً، وانطلاقاً من شمولية مشروع التحرير للكل الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها ثانياً، وبغرض زيادة فاعلية النضال الفلسطيني ثالثاً. وعلى الرغم من شبه الإجماع المطلق على مبدأ “وحدة الساحات” فلسطينياً وإقليمياً، لم تشهد جولات الاشتباك مع الاحتلال نماذج عديدة تجسّده، نتيجة معوّقات ذاتية وموضوعية عديدة، إذ انحصر تطبيقه في حالاتٍ قليلة يسهل تعدادها، كان لقطاع غزّة منها النصيب الأكبر في الآونة الأخيرة، عبر مسارعة فصائل المقاومة الفاعلة فيه، تحديداً حركتي الجهاد الإسلامي وحماس، إلى التدخّل عسكرياً نصرةً للقدس غالباً، كما كان للاعتداءات الصهيونية على المسجد الأقصى وفيه النصيب الأكبر في تحريض الكلّ الفلسطيني على النضال جسداً واحداً بهدفٍ تحرّريٍ واحدٍ، كما حصل في هبّة 2021، وأخيراً كما حصل في إطلاق 30 صاروخاً من الأراضي اللبنانية.

تعود معيقات تطبيق مبدأ “وحدة الساحات” الفلسطينية الذاتية إلى جملة من العوامل، أهمها تراجع قوة الفصائل ونفوذها شعبياً أولاً. وخضوع الفصائل لحسابات التمويل الدولي والإقليمي ثانياً. وصراع الهيمنة الفصائلية على الساحة الفلسطينية ثالثاً، خصوصاً بين حركتي فتح وحماس، الذي يعتبر الانقسام أحد أهم تجلياته. ورابعاً نتيجة منهجية القوى الفلسطينية، التي تكثّف جهودها وتصبّ غالبية إمكاناتها في حيز جغرافي محدّد، بغرض بناء قاعدة تحميها وتتخندق فيها، كما حصل تاريخياً في الأردن ولبنان، وكما يحدُث اليوم في الضفة الغربية وقطاع غزّة. الأمر الذي أدّى إلى تراجع دور الجسم السياسي الفلسطيني نضالياً، مع الحفاظ على شيءٍ من دوره السياسي الرسمي.

يعود قسم مهم من المعيقات الموضوعية الخارجية إلى طبيعة المرحلة التي سادت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وأدّت إلى هيمنة رؤية شبه أحادية على العالم، تتمثل في الرؤية الأميركية، التي حاصرت حركات التحرّر، وصنّفت غالبية النضال التحرّري ضمن لوائح إرهابية انتقائية، تحكمها مصالح الولايات المتحدة والنظم المسيطرة عالمياً، بدلاً من القانون الدولي والعرف الإنساني والمنطق الأخلاقي. كذلك تعيق طبيعة النظم الإقليمية الانتهازية تطبيق هذا المبدأ، إذ حوّلت غالبية نظم المنطقة، تاريخياً وراهناً، القضية الفلسطينية إلى أداة ضغطٍ موجّهة، تخدم مصالح النظم ذاتها، بغض النظر عن قضية فلسطين وعن حقوق شعوب المنطقة، إذ أصبح الفعل النضالي والحديث عن فلسطين والمطالبة بحقوق شعوب المنطقة المشروعة مجرّد ورقة مساومة لا أكثر، تستخدمها النظم لانتزاع شرعية دولية وإقليمية، أو للمساومة على ملفّات سياسية واقتصادية أخرى تعكس مصالح النظم فقط.

يتطلّب شروطاً ذاتيةً وموضوعيةً عديدة غير متوفرة اليوم، في ظل اضمحلال الفصائل الفلسطينية، وضعف حاضنتها الاجتماعية أولاً، ونتيجة تغليب المصالح الفصائلية على نظريتها الوطنية ثانياً، وبحكم انتهازية النظم الإقليمية وثانوية القضايا التحرّرية في حساباتها ثالثاً. من ذلك كله، يعتقد الكاتب أن تعدّد ساحات الاشتباك في المرحلة الراهنة منوط بحيوية شعب فلسطين وإرادته أولاً، وشعوب المنطقة ثانياً، في حين سوف يقتصر دور النظام الإقليمي على استغلال مبدأ “وحدة الساحات” ورقة تكتيكية لحظية، يستخدمها حين يشاء ويتجاهلها معظم الوقت، على الرغم من تأثيرها النوعي على مسار النضال الفلسطيني التحرّري وعلى توجّهات الاحتلال الصهيوني وحساباته. وللأسف، ليس هذا المبدأ مكوّنا رئيسيا من مكونات استراتيجية كل النظام الإقليمي، بما فيه إيران، وهو ما يجب الحذر منه فلسطينياً، كي لا نقع في الفخّ الذي وقعنا فيه في مرحلةٍ سابقة، خصوصاً من النكبة في 1948 حتى النكسة في 1967، وبدرجة أقل حتى خروج الفدائيين الفلسطينيين من بيروت في 1982، على الرغم من أهمية البعد الإقليمي لنجاح مبدأ “وحدة الساحات”، في تخفيف الضغط على قطاع غزّة، ولقدرته على التحكّم في فعالية نضال فلسطينيي الشتات وتحرّكاتهم، فضلاً عن تحكّمه في فاعلية شعوب المنطقة. لكن تحويله إلى ورقة تكتيكية مصلحية لن يخدم مشروع التحرير، حتى وإن حقّق بعض المكتسبات الآنية، بل قد يؤدّي استخدامه ورقة تكتيكية لحظية من النظام الإقليمي إلى توافقاتٍ دوليةٍ وإقليمية، على حساب القضية والشعب الفلسطيني، كما حصل سابقاً.

مقالات ذات صلة