جيل جديد من أفعال المقاومة والتضامن

كمال عبد اللطيف

حرير- بادر مثقفون مغاربة بالدعوة إلى إعلان يوم السبت الماضي، 11 فبراير/ شباط الجاري، يوماً للتضامن مع الشعب الفلسطيني المحاصر والمعزول في أرضه. ورسموا لمبادرتهم موقفاً يتطلّع إلى إسناد المشروع الوطني الفلسطيني، وإسناد شرارات المقاومة التي أطلقها، أخيراً، جيل جديد من الشباب الفلسطيني ضد الكيان الصهيوني المحتل، تعبيراً منه عن شكلٍ من أشكال الصمود، وتعبيراً، أيضاً، عن رفضهم كل صور التطبيع الجديدة، التي يتخلَّى أصحابها عن دعم القضية الفلسطينية، لينخرطوا في مسلسل فتح أبواب مجتمعاتهم أمام الصهاينة بمبرّرات التعاون والسلام، في وقتٍ يمارس فيه الكيان الصهيوني عنصريته وعدوانه على القرى والمدن الفلسطينية، يحاصر الشيوخ والنساء والأطفال، ويواصل عمليات التوسّع والضّم والاستيطان، ولا يتردَّد في مواصلة تجميد إجراءات السلام، التي وافق عليها في اتفاق أوسلو سنة 1993.

يحمل ملصق المبادرة ما يشير إلى دعم الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين لروحها. وقد جرت المبادرة في أزيد من 50 مدينة مغربية، وحملت شعار “المجد لفلسطين أرضاً وحضارة وإصراراً على المقاومة”، إذ أقيمت أنشطة ثقافية شارك فيها كتّابٌ وباحثون وشعراء من مختلف الأجيال، عبّروا خلالها بلغة واضحة عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني، واعتزازهم برياح المقاومة الجديدة، التي هبّت معلنة الغضب العاصف لشباب وأطفال عاينوا جبروت الصهيونية وغطرستها. كذلك ساهمت ستّ دول أفريقية استجابت لنداء المبادرة المغربية،: تشاد، ومالي، ونيجيريا، وجيبوتي، والسنغال، وغينيا. وفي فضاء الحرية في الدار البيضاء، عُقد اللقاء فحضرت القضية الفلسطينية بمختلف أسئلتها وأسئلة الزمن العربي، ومختلف التحوّلات الجارية اليوم في العالم. كما حضرت المقاومة وشعاراتها واتّخذ اللقاء طابعاً إنسانياً ومدنياً، قصد التذكير بنضالات الشعب الفلسطيني المقاوم. وعُقِدت لقاءات مماثِلة في مدن مغربية عديدة، فأتيح لمشاركين كثيرين في اللقاء من الشباب بعض أوجُه التضامن المُفْتَقَدَة في زمن التراجعات العربية المختلفة.

إذا كان الارتباك الحاصل اليوم في جبهة العمل الوطني الفلسطيني قد دفع الفلسطينيين اليوم إلى الانقسام، تحت ضغط حساباتٍ سياسية ظرفية، فإن شرارات المقاومة الجديدة، التي أطلقت في الأيام الأخيرة في القُدْس ردّ فعل على جرائم إسرائيل في مخيم جنين، وفي قرى ومدن فلسطينية كثيرة، ساهمت في رسم الملامح المطلوبة لأفق الوحدة الوطنية الجامع، أفق الصمود، والمقاومة والتحرير. جيل جديد من المقاومين يفتح أعين العالم، مجدّداً، على جرائم الاستعمار الاستيطاني وعنصريته وتطرّفه، ومختلف صور الرعب التي يُعامِل بها الفلسطينيون في ديارهم، منذ ما يزيد عن سبعة عقود، حيث عملت السياسات الإسرائيلية، بدعم من الغرب الاستعماري، على وَقْف إمكانية السلام العادل، فتَغَوَّلَت إسرائيل لِتتحوَّل إلى دولةٍ دينية عنصرية يقودها فاشيون، يحلمون باختراق المشرق والمغرب والخليج العربي، من أجل بناء مشروع أسطورة “الشرق الأوسط الجديد”، كما رسمها شمعون بيريس قبل ثلاثة عقود.

تُقرأ أفعال المقاومة والتضامن، في صورهما الجديدة، كمحاولة لتجاوز صور الجمود التي لحقت القضية الفلسطينية. وتُقرأ أيضاً كخيار يتجاوز انتظار التخلص من النتائج السلبية لكل ما يجري بين الفصائل الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.. وهي رغم طابعها الفردي، المرتبط بسياقات وشروط فلسطينية وعربية ودولية، يعرف الجميع الثِّقْل الذي تمارسه على تحولات كثيرة جارية في البلدان العربية، إلا أنها تقدّم الخيار السياسي المناسب لمقتضيات مآلات مشروع التحرير الفلسطيني المُحاصَر اليوم، حيث لا بديل لخيار المقاومة لِلتَّمُكُّن من مواجهة جبروت الكيان الصهيوني، والتَّمَكُّن، أيضاً، من وَقْفِ عمليات التطبيع التي أطلقتها إسرائيل مستهدفةً عَزْل الفلسطينيين عن محيطهم وتاريخهم العربي، وعزلهم عن مشروع التّحرُّر والتّحرير الإنساني. وضمن هذا السياق، نتصوَّر أن مقاومة الجيل الجديد تُعَدُّ بمثابة انتفاضة وأفق جديد في طريق التحرير.

تُعَدّ شرارات المقاومة بمثابة ردّ فعل على فشل مشروع اتفاق أوسلو، إنها بديل لمخططات سلام مَلْغُومَةٍ بدون سلام. إنها حتى عندما لا تُمكن من تحرير الأرض المغتصبة بفعل الاستيطان ومواصلة طرد الفلسطينيين وتهجيرهم، فإنها توسّع مجال أفق إرادة التحرير، وتفتح من جديد ميدان التضامن العربي والإنساني، فتشكِّل إحدى الوسائل المُساعِدة في عملية وقف سطوة الكيان الصهيوني وعدوانيته وسياساته العنصرية. فقد تخلّصت شرارات المقاومة الفردية من سطوة القيود الفولاذية للصهاينة وعنفها، وأصبحت تمارس، كما عاينا ذلك أخيراً، نوعاً من الفزع المرعب للصهاينة، وهي تملك، في ضوء ما يجري اليوم في الأرض المحتلة، ما يسمح لها بإمكانية التحوُّل إلى شراراتٍ متطايرة، وصانعة نيران وحرائق تخطف الأبصار، ولا تُبْقِي ولا تَذر.

حصل في أزمنة سابقة داخل تاريخ المقاومة الفلسطينية المفتوح ما يماثل شرارات المقاومة الحاصلة اليوم، ونتصوَّر أن ما يحصل من وقائع جديدة من المقاومة يرتبط بالأشكال الجديدة من العدوان الإسرائيلي المتواصل. إنها تنشأ بأصابع وأدوات وأفعال جيل جديد من الفلسطينيين، الذين يعرفون الاحتلال كما عرفه آباؤهم قبلهم. وعلى كل شرفاء العالم، المؤمنين بالمشروع الوطني الفلسطيني احتضانها وتطويرها، من أجل محاصرة التطلعات الاستعمارية الصهيونية المتواصلة.. فكيف تصبح شرارة المقاومة فعلاً تاريخيّاً؟ وكيف نُحْيي مبادرات التضامن العربية مع الصمود والمقاومة الفلسطينية؟

تفكّر إسرائيل، ويفكّر الذين يقفون وراء مشروعها الاستيطاني في صناعة “جيل جديد من الفلسطينيين”، جيل مناسب لجبروتها، ولطموحاتها الاستعمارية، ويقف وراء هذا المشروع كل داعمي الكيان الصهيوني. ومقابل ذلك، يتطلّع المؤمنون بعدالة المشروع الوطني الفلسطيني في العالم أجمع إلى ميلاد مقاومةٍ جديدة، وصيغ في التضامن غير مسبوقة، يكون بإمكانها التصدّي للأحلام الصهيونية المتواصلة، وإيقاف عدوانها وكشف صور عنصريتها وأشكال اضطهادها لشعب أعزل.

إذا كان بإمكاننا أن نربط شرارة المقاومة الجديدة، التي فَجَّرها الجيل الجديد من الفلسطينيين، وذلك بعد معاينته الخروقات والتجاوزات التي سمحت بوقف إجراءات “أوسلو”، وبالمجازر التي تواصل إسرائيل ارتكابها بوحشيةٍ كما حصل في مخيم جنين، فإن بإمكاننا، قبل ذلك، أن نربطها بتاريخ الاعتداءات التي لم تتوقّف على الأرض المحتلة، منذ ما يزيد عن سبعة عقود من الطغيان، وبكل الآثار التي ركّب على أرض فلسطين وفي المحيط العربي. تُقرأ حركة المقاومة الجديدة بوصفها امتداداً متطوّراً للانتفاضات الفلسطينية التي لم تتوقف منذ اغتصاب الأرض وتزوير التاريخ.

مقالات ذات صلة