نتنياهو: القائد المتماهي مع المشروع..!

علاء الدين أبو زينة

حرير- ‏يتعرض بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الأطول خدمة في تاريخ الكيان الصهيوني، إلى حملة من الانتقادات في الداخل والخارج. وينتظره صدور محتمل لمذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية لارتكاب جرائم حرب. وفي الوقت نفسه، يستقبله الكونغرس الأميركي للمرة الرابعة، ليكون أكثر زعيم أجنبي يخاطب هذه الهيئة، ويُحتفى به هناك وكأنه بطل وطني حقق للبلد ما لا يتحقق (وهو ما يفعله ببعض المعاني). وبين النقد والدعم، لا يسقُط نتنياهو ولا حكومته التي توصف بأنها الأكثر يمينية وتطرفًا في تاريخ الكيان. ولا يتخلى عنه “أصدقاؤه” الذين يتحدث عنهم في المنطقة وخارجها. ويتقدم في استطلاعات الرأي على المعارضة الداخلية برغم كل شيء.

بالنسبة للفلسطينيين وأنصارهم، هو خصم صعب بالتأكيد لأنه لم يترك طريقة تضر بالفلسطينيين ومستقبلهم وبالعرب جميعًا إلا استخدمها بلا رحمة. وعلى صعيد المنطقة، اقتربت سياساته من فرض كيانه الاستعماري على الإقليم، وبدت مطارات العواصم على وشك أن تُفتح له تباعًا بينما توضع أعلام فلسطين في المستودعات وتزال نوتة نشيدها الوطني من دفاتر العازفين. لكنه بالنسبة للمشروع الذي يخدمه قائد مثالي ومجيد، كما ينبغي لقائد مشروع مخلص.

يخدم بنيامين نتنياهو المشروع الاستعماري الاستيطاني الإحلالي الصهيوني في فلسطين. ‏ويسعى الاستعمار الاستيطاني، بطبيعته، إلى استبدال السكان الأصليين بمجتمع جديد من المستوطنين. وتنطوي هذه العملية على الإزالة أو التدمير المنهجي للسكان الأصليين، وهو مبدأ يطبقه نتنياهو بالتزام لا يتزعزع. وتعكس سياساته في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة إستراتيجية واضحة للتطهير العرقي، حيث يجري تجريد الفلسطينيين من أراضيهم وإعدام أي فرصة لاستقلالهم -بل ومحو وجودهم من المشهد.‏

‏يشكل إشراف نتنياهو على توسيع المستوطنات في الضفة ودعمه لعمليات الإخلاء القسري للفلسطينيين من القدس الشرقية تطبيقات مباشرة لهذا المبدأ. ومن خلال تهجير العائلات الفلسطينية واستبدالها بمستوطنين يهود، ينخرط نتنياهو في عملية تطهير عرقي تشكل جزءا لا يتجزأ من المشروع الاستعماري الاستيطاني. وليس هدم منازل الفلسطينيين، وإلغاء حقوق الإقامة، وفرض نظام شبيه بالفصل العنصري، سوى جزء أصيل من إستراتيجية أوسع لإخلاء المناطق الفلسطينية من السكان وضمان الهيمنة الديموغرافية اليهودية.

‏وفي غزة، تتخذ سياسات نتنياهو بعدا أكثر شراسة. كانت الهجمات العسكرية المتكررة على غزة، التي أسفرت عن القتل الجماعي للمدنيين، بمن فيهم الأطفال، أعمال إبادة جماعية. ويتفق تعريفه لـ”الدفاع عن النفس” بهذا المعنى مع المنطق الاستعماري للإبادة، باعتبار إلغاء النقيض أعلى دفاع عن مشروع استعماري استيطاني. ومن خلال الاستهداف المنهجي للسكان العزل إلى حد كبير والمحصورين في واحدة من أكثر المناطق اكتظاظًا بالسكان في العالم، يسعى نتنياهو إلى الحد من وجود السكان الفلسطينيين وكسر روح المقاومة والبقاء لديهم.‏

وحتى تكتمل الشخصية المتماهية مع المشروع الذي حشّد على مقولات “أرض الميعاد” و”الشعب المختار”، يعتنق نتنياهو التعاليم الدينية الأكثر تطرفًا، التي تبرر قتل أطفال العدو ونسائه ورجاله وشيوخه. ويشاركه ائتلافه من اليمين الديني هذه التعاليم الدينية التي تسمح بتأويلها بطريقة تجرد الشعب الفلسطيني من إنسانيته وتضفي الشرعية على تدميره. وقد سمح نتنياهو، بعلاقاته الوثيقة مع هذه الجماعات الدينية، لأيديولوجيتها بتشكيل سياساته بهذه الطريقة المتماهية مع الفكرة الأساسية للمشروع.

‏يتجلى هذا التأثير في الطبيعة العشوائية للعمليات العسكرية في غزة، حيث يتم القضاء على عائلات بأكملها عمدًا في الغارات الجوية. ويعكس استهداف البنية التحتية المدنية، بما فيها المدارس والمستشفيات والمنازل، الاعتقاد بأنه ليس هناك فلسطينيون أبرياء- وأنه حتى الأطفال يشكلون تهديدات مستقبلية يجب القضاء عليها لضمان أمن دولة المستوطنين. وتنسجم هذه الأيديولوجية المتطرفة، التي ترى الفلسطينيين عدوًا جماعيًا يجب تدميره، تمامًا مع أهداف المشروع الاستعماري الاستيطاني.‏

من بين الجوانب الأكثر جدارة بالانتباه في نهج نتنياهو تجاه الصراع في غزة هو استعداده لإطالة أمد الحرب الدموية. وفي حين قد يسعى العديد من القادة إلى تسريع انتهاء الصراع لتقليل الخسائر البشرية، ينظر نتنياهو إلى كل خسارة فلسطينية كمكسب إستراتيجي يستحق كلفة الخسائر في الاقتصاد والسمعة الدولية– وحتى الأرواح من الجانبين.

‏وفق هذا المنظور، ليس الدمار الذي لحق بغزة وارتفاع عدد القتلى المدنيين– وحتى التضحية بمن يُسمون “الرهائن” لدى حماس- نتيجة مأساوية للحرب، وإنما متطلبات ضرورية للحفاظ على المشروع الاستعماري. وإذا ما أُخذت تصرفات نتنياهو، على الرغم من الإدانة الدولية والاعتراضات المحلية، في إطار الاستعمار الاستيطاني، فإنه يفعل المطلوب بالضبط لمحاولة تطويل عمر الكيان كدولة يهودية.

من المؤكد أن شخصية نتنياهو ليست مثيرة للإعجاب بأي من المعايير الكونية للحكم على صلاح الناس. لكنّ عظمة القادة يمكن أن تُقاس بخدمتهم للمشاريع التي يقودونها. وقد يبدع قائد في إنجاح مشروع، وإنما مشروع لا يخدم المبادئ الوطنية كما يفهمهما شعبه. والمشهد يضج بمثل هؤلاء. لكن نتنياهو يستكمل عمل المؤسسين الاستعماريين، مثل هرتزل وبن غوريون وجابوتنسكي وغولدا مئير وأمثالهم، ويعمل بما يوصي به الكتاب في السياقات الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية. ولو كان نظراؤه في الإقليم يعملون على مشروع التحرر والتقدم والتخلص من الهيمنة، الذي ينبغي أن يكون مشروعنا الوجودي كأمّة، بنفس الإخلاص والتماهي، لتغيرت في الأمور أمور.

‏عندما ينظر المؤرخون في إرث نتنياهو، فإنهم قد يستنتجون أنه كان أحد أعظم قادة الكيان الصهيوني- ليس بسبب أي قيادة أخلاقية بالتأكيد، وإنما بسبب التزامه الثابت بالمبادئ التي يقوم عليها المشروع الاستعماري الاستيطاني، وحشية كما هي، في فلسطين. تحت قيادة نتنياهو، لم توسع إسرائيل سيطرتها الإقليمية فحسب، بل رسخت أيضا نظام الفصل العنصري والتطهير العرقي، المحوري في المشروع الاستعماري الاستيطاني. ضمنت سياساته بقاء السكان الفلسطينيين مجزأين ومضطهدين وغير قادرين على تحدي هيمنة الدولة الاستيطانية، وساهمت في تخويف الإقليم والمزيد من هيمنة الكيان عليه. وقد يُنظر إلى عمل نتنياهو الوحشي على أنه مدمّر للكيان، لكن كل الكيانات الاستعمارية تتوحش عندما تشعر بخطر الزوال. ومهما تكن النتيجة، سوف يتحدد إرث نتنياهو بقدرته على الوفاء لمبادئ الوحشية الاستعمارية بكفاءة لا ترحم، لا يضاهيها الكثير من القادة الآخرين.‏‏

مقالات ذات صلة