الإعلام الأميركي والعرب بين الصورة النمطية وإدارة الاعتقاد

محمد أبو رمان

حرير- تعيد أستاذة الإعلام في الجامعة العربية المفتوحة، سلافة الزعبي، طباعة كتابها “صورة العرب في الإعلام الأمريكي”، بعد عقد ونصف عقد من صدور الطبعة الأولى (وهو في الوقت نفسه أطروحتها للدكتوراه)، لكن خلال تلك الفترة لم تنقطع أبحاث الزعبي في تحليل البيئة السياسية والإعلامية الأميركية وكشف حجم التحيّز الأيديولوجي والسياسي تجاه العرب والقضايا العربية.

ولجت سلافة الزعبي في الكتاب إلى موضوعات شائكة ومركّبة ومعقدة، وفكّكت القضية، مميزةً ما بين الأبعاد النظرية، بدايةً، في تحديد المفاهيم الرئيسية وتأطيرها، بخاصة التمييز بين الصورة النمطية (Stereo Type) والصورة الذهنبية (The Image) وفك الاشتباك بينهما، مع تشريح وحفر معمّقين في بنية هذه المفاهيم والأسس المعرفية والفكرية لها، للتمييز بين صناعة الصورة من جهة في الإعلام الأميركي للعرب والمسلمين، وهو الأمر الذي يبدو أكثر حركيةً وديناميكية، والصورة النمطية التي تتسم بالتجذّر والتراكم والاستاتيكية (الجمود) أكثر، وأحسب أنّ هذه المساهمة الأكاديمية من سلافة الزعبي، بحد ذاتها، تمثّل أهمية علمية وعملية للكتاب والإعلاميين وصانعي السياسة في العالم العربي، إذ يخلط كثيرون بين المفهومين، ولا يميزون بينهما، ما ينعكس على سطحية الفهم والإدراك لطبيعة التغطية الإعلامية الأميركية لقضايا العرب والمسلمين.

انتقلت سلافة الزعبي من القضايا المفاهيمية إلى توضيح العلاقة والراوبط والتداخلات بين المؤسّسات السياسية الأميركية والمصالح الأميركية من جهة ومؤسسات الإعلام من جهةٍ ثانية، مؤشرة إلى أدوار مختلفة لرأس المال واللوبي الصهيوني والمصالح الأميركية التي حكمت، في أوقات كثيرة، تغطية الإعلام الأميركي الملفات الرئيسية في السياسات الأميركية، وربطت ذلك بتنميط المؤسسات الثقافية والسياسية هناك الصورة عن العرب والمسلمين.

ثم قدّمت المؤلفة دراسة كمّية تثبت ما ذكرته من مقدّمات وتحليلات عن تحيّز كبير للإعلام الأميركي في التعامل مع القضايا العربية والإسلامية، من خلال نموذج لإحدى أهم القنوات الأميركية في صناعة الخبر والرأي العام هناك، وهي CNN، وجعلت أحداث “11 سبتمبر” (2001)، ما قبلها وما بعدها نقطة رئيسية من نقاط التركيز في الدراسة، مع تناول موضوعات مثل ربط العرب بالإرهاب والسياسات الإسرائيلية وصورة أسامة بن لادن وتعميمها وغيرها من قضايا شبيهة، شرحتها المؤلفة عبر منهجية تحليل المضمون، سواء على صعيد مصدر الخبر أو الأجندة الإعلامية أو حتى الاتجاهات التي قدمت خلال هذه التغطيات المختلفة.

صدرت الطبعة الأولى من الكتاب قبل قرابة عقد ونصف عقد، وكانت حينها ذروة عصر الفضائيات ودورها في الأزمات والحروب والتأثير الكبير على الرأي العام. ولعلّ الإشارة إلى CNN لما اكتسبته هذه القناة من شهرة عالمية وأهمية كبيرة في التأثير على الرأي العام الأميركي والعالمي، عقودا، بخاصة في حرب الخليج 1991، لكن من المهم الإشارة هنا إلى أنّ فضائية الجزيرة تمكّنت من أن تشكّل عربياً وعالمياً منافساً كبيراً لقناعة CNN، بل تفوّقت عليها في حرب العراق 2003، عندما قامت بتغطية الحرب، وأزعجت الولايات المتحدة باختراق قدرتها على التحكّم في المعلومات، وكانت أغلب القنوات الأميركية والغربية في الحرب محكومةً بالعلاقة مع الجيش الأميركي، وظهر حينها مصطلح “الإعلامي المندمج” (الذي يرافق القوات العسكرية ويبثّ تقاريره التي يقرّها الجيش)، بينما خرقت “الجزيرة” ذلك، ورفعت الحجاب عن الصور والمشاهد التي لم ترد الإدارة الأميركية بثها، ما أدّى إلى قصف مقر الجزيرة واستشهاد مراسلها طارق أيوب. وقد أشرت إلى ذلك في دراسة تحليلية بعنوان “دور الإعلام الغربي والإعلام العربي في غزو العراق 2003: قراءة في الأبعاد الإعلامية النفسية” (نشرت في التقرير الاستراتيجي لصحيفة البيان، دبي، 2004).

تتمثل الإشارة الثالثة في التزايد المستمر والمطّرد في أهمية الإعلام والصناعة الإعلامية في صناعة السياسات والرأي العام وتأطير القضايا والأجندات والأولويات، بما يخدم أهداف سياسية معينة. وقد أشارت المؤلفة، في الكتاب، إلى دور الإعلام في عمل جهاز المخابرات الأميركية (CIA)، وتأسيس أقسام خاصة بالدعاية الإعلامية والبروباغندا. وأحسب أنّ مثقفين كثيرين قد اطلعوا على كتاب “من الذي يدفع للزمّار؟ الحرب الباردة الثقافية” الذي تستعرض فيه المؤلفة فرانسيس ستونر سوندرز دور المخابرات الأميركية في عالم الفنون والآداب، فبعد أن سكت هدير المدافع وأزيز الطائرات ودوي القصف، إثر إنتهاء الحرب العالمية الثانية (أغسطس/ آب 1945)، أخرجت الترسانة الأميركية أثقالها الثقافية: الصحف والمجلات والإذاعات والمؤتمرات ومعارض الفن التشكيلي والمهرجانات الفنية والمنح والجوائز، وتكوّنت شبكة محكمة من البشر الذين يعملون بالتوازي مع “CIA” لزرع فكرة جديدة مؤدّاها أن العالم في حاجة إلى سلام أميركي، وإلى عصر تنوير جديد، وسيكون اسم ذلك كله “القرن الأميركي”.

لم يتراجع دور الإعلام الأميركي والغربي بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الشيوعية، بل أصبح أكثر مركزيةً وأهميةً وتشابك الإعلام، وارتبطت صناعته بعلم الدعاية السياسية، ووُظفت العلوم المختلفة في الصناعة الإعلامية، بخاصة السيكولوجيا والسوسيولوجيا والتسويق والعلاقات العامة وغيرها من مجالات وعلوم أصبحت جزءاً من الصناعة الإعلامية الجديدة. وبالتالي، تحول دور الإعلام من الإخبار والتغطية المحايدة إلى صناعة الرأي العام وتعليبه والتأثير عليه، وأصبح الإعلاميون أكثر انغماساً بهذا الدور، عرفوا أم لم يعرفوا، ضمن منظومة العمل المؤسّسية لهم، سواء من زاوية المؤسّسة وأجندتها الإعلامية، والداعمين لها والجمهور المرتبط بها، وهي “خطوط حمراء” قد لا تكون مقروءة أو مباشرة، كما هي الحال في دول شمولية كثيرة، لكنّها محدّدات كبيرة وموجهات أشد تأثيراً من الدور المباشر لما كان يقوم به الرقيب الإعلامي سابقاً في الإعلام العربي.

ما ذكرته سلافة الزعبي في هذا الكتاب أنّ من الخطأ الكبير أن نتعامل مع الإعلام وصناعته وكأنّه بريء أو محايد بالكلية، بخاصة في الملفات التي يكون هنالك تداخل ما بين الإعلام والسياسات العليا لدولة معينة، أو حتى في التنافس السياسي بين الخصوم، فالإعلام أخطر في أبعاده وتأثيره ونفوذه بكثير من دور الصواريخ والمدافع والدبابات، لأنّه يتلاعب بسيكولوجيا الشعوب وعقولها، ولعلّ المؤلفة قد رجعت إلى كتبٍ عديدة تؤكّد هذه النظرية، ولمؤلفين كبار، لكن من الضروري هنا إضافة كتابٍ مهم لأحد أبرز المفكّرين الأميركيين اليساريين، نعوم تشومسكي، وهو “السيطرة على الإعلام” (دار الشروق، القاهرة، تعريب أميمة عبد اللطيف)، ففيه تشريحٌ مهمٌّ لدور الإعلام وتأثره بالأيديولوجيات وتأثير الدعاية على اتجاهات الشعب الأميركي وآرائه ومواقفه من الأحداث.

في الخلاصة؛ لا تقلّ الصناعة الإعلامية أهمية اليوم، في مقياس قوة الدولة والتأثير على القرارات والشعوب، عن الدبلوماسية ولا الماكنيات الحربية، وإذا كان كتاب سلافة الزعبي يفكّك عوامل الانحياز الواضحة في الإعلام الأميركي، ما ارتبط منها بعواملة ثقافية وموروثة وصورة نمطية وما تمت صناعته عبر اللوبيات، فذلك لا يعني التسليم بأنّه أمرٌ محسومٌ لا يمكن التعامل معه، بل هو على النقيض من ذلك محفّز لمعرفة كيفية تغيير الصورة النمطية وإعادة صناعة السمعة والإدراك من خلال فهم بنية الإعلام الأميركي وسياقاته، وسيكولوجيا الشعب الأميركي هناك، وإذا كانت ثمّة محاولات رائدة عربياً لهذا الاشتباك عبر قناة الجزيرة الإنكليزية، فإنّ تقييم التجربة بصورة نقدية من المثقفين الأميركيين أنفسهم، لمعرفة مواطن القوة والضعف أمرٌ مهم آخر، فضلاً عن أنّ ذلك ليس بديلاً عن الدخول إلى ماكينة الإعلام الأميركي نفسه، عبر التملّك ووسائل أخرى.

 

مقالات ذات صلة