أنا والقدس” .. رحلة سرديّة مع هالة السكاكيني في أزقةٍ كانت لنا!

يوسف الشايب:

يتناول كتاب “أنا والقدس”، الصادر حديثاً عن مؤسستي الدراسات الفلسطينية وتامر للتعليم المجتمعي، مراحل حياة هالة السكاكيني في القدس، منذ الطفولة في العام 1924 وحتى النكبة في العام 1948، بحيث تشاركنا هالة، عبر الانتقال المتقن بين الخاص والعام، في عدة محطات وأحداث اجتماعية وثقافية وسياسية عاشتها في تلك الفترة مع عائلتها، مظهرةً بذلك الحضور الملحوظ لشخصية والدها خليل السكاكيني، وأثره الواضح في بنائها الذاتي والمعرفي.

 

ويتنقل بنا السرد في الكتاب من ذكرى إلى أخرى، وسط تفصيلات صغيرة ودقيقة للأمكنة، وأجواء الحياة في المدينة، وأسماء عائلاتها، ومسارحها، ومدارسها، ومقاهيها، وطقوسها في الاحتفالات بمختلف المواسم في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، ما يشكل دعوة للقارئ كي يسير مع هالة السكاكيني في القدس، على حد وصف رناد القبج مديرة مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي في تقديمها للكتاب.

 

 

ومما جاء في تمهيد الكتاب على لسان مؤلفته “يوم الثلاثاء الرابع من تموز 1967، بعد شهر على حرب الأيام الستة، زرنا أنا وأختي ديمة بيتنا في حي القطمون بالقدس لأول مرة منذ تسعة عشر عاماً. كان لقاء حزيناً، كأن تلتقي عزيزاً رأيته آخر مرة وهو في عز الشباب والصحة والأناقة، لتجده وقد أصبح هرماً، مريضاً ورثّ الثياب. بل أسوأ من ذلك، كأن تلتقي صديقاً تغيّرت شخصيته تماماً، ولم يعد الشخص الذي عرفته قبل أعوام .. لقد أمضينا حياتنا منذ العام 1948 في المنفى، بعيداً عن قدسنا. كنا فقدنا الأمل تقريباً بأن نرى القطمون وبيتنا مرة أخرى، وعندما جاءتنا الفرصة أخيراً لزيارة حيّنا القديم ترددنا، ما هكذا أردنا أن تكون عودتنا”.

 

آخر مرة كانت هي والعائلة فيها بمنزلهم في حي القطمون في الثلاثين من نيسان 1948 “اليوم الذي هربنا فيه من القدس في أثناء حرب فلسطين. كان عمر بيتنا حينها أحد عشر عاماً بالضبط. كان لا يزال في وضع ممتاز، وكل ما فيه كان مشرقاً ومضيئاً. كنا قبل مغادرتنا بشهر قد أعدنا طلاء جميع النوافذ، كنا نعتني بحديقتنا جيداً، وكانت في ذلك اليوم الربيعي الذي غادرنا فيه تعج بالزهور. كم وجدناهما، البيت والحديقة، مختلفين الآن”.

 

 

 

وتسهب هالة في وصف رحلتها وشقيقتها إلى منزلها .. “كانت مفاجأة سعيدة أن نكتشف أن دكان شتيرن ما زال قائماً، حيث تركناه قبل تسعة عشر عاماً، والذي أظن أنه الدكان الوحيد في ذلك الشارع الذي بقي على حاله ولم يتغير. بعدها بقليل مررنا بصالون حمّودي للتجميل والحلاقة، أو ما كان صالون حمّودي. كان هناك فيما مضى حركة دائمة أمام ذلك الصالون، حيث الزبائن يدخلون ويخرجون عبر باب واسع ذي ستارة من الخرز .. مكان آخر كان يعج بالحركة هو مقهى قبالة صالون حمّودي عبر الشارع اسمه بيكاديلي، وكان صاحبه السيد عيسى سلفيتي، وهو جار لنا في القطمون .. كان بيكاديلي مكاناً مزدحماً للقاءات، وفي أي وقت مررت به كنت تجد حول معظم الطاولات على الشرفة الواسعة رجالاً عرباً، شباناً، وكهولاً، الكثير منهم يدخنون النرجيلة، كان هذا في الأربعينيات المقهى المفضل لدى أبي وأخي”.

 

وفي الرحلة إلى المنزل ترصد ابنة خليل السكاكيني تفاصيل حي القطمون في ذلك الجزء الغربي من القدس، والذي كان فلسطينياً قبل النكبة .. “بعدها وصلنا إلى الكولونية الألمانية، حيث أمضينا ستة أعوام سعيدة من طفولتنا، عندما كنا ندرس في ثلاثينيات القرن الماضي. المبنى الأول الذي رأيناه كان قاعة الاجتماعات خلف مبنى المدرسة، ولاحظنا أنه تحول إلى كنيسة أرمنية. أما جرس المدرسة الكبير الذي كان معلقاً خارج الباب الأمامي، فلم يعد موجوداً، وساحة المدرسة الواسعة أصبحت مكتظة بأكواخ مسبقة الصنع بشعة”.

 

 

وصلت هالة بعد رحلة ليست بالقصيرة سردياً ولا نفسياً إلى حيث البيت الذي بدا من الخارج سليماً، “لكنه، وبشكل ما، بدا قاتماً. كانت الجدران مغبرّة، والدرج قذراً، وكان طلاء النوافذ قد بهت، لكنني أعتقد أن ما صنع كل الفارق هو حالة الحديقة. ذهبت شجرة الياسمين التي كانت تتكئ على البيت، أما شجيرات الأضاليا متعددة الألوان فهي طبعاً لم تعد هناك.

 

كانت الحديقة جافة وبنية اللون ومغطاة بركام مبعثر، وأمام البيت مباشرة، وسط الحديقة، أقيم بناء خشبي قبيح .. أخبرنا شاب في الشارع أن البيت يُستخدم حضانة وروضة، وكان في ذلك بعض العزاء، وتذكرت والدي وهو يردد برقة كلمات يسوع: دعوا الأطفال يأتون إليّ”.

 

 

“صعدنا الدرجات. كانت الشرفة خالية تماماً، واللمبة القديمة ملتصقة بالسقف. كان هناك سياج حديدي حول الشرفة لمنع الأطفال من التسلق. ترددنا قليلاً، ثم فتحنا الباب الأمامي ودخلنا (كان الجرس الكهربائي منزوعاً، ويبدو أن أحداً لم يسمع طرقنا على الباب) .. أخيراً، وقفنا في الداخل وسط غرفة معيشتنا الكبيرة .. كان الباب الواسع الذي يفصل غرفة المعيشة عن غرفة الطعام قد أزيل، وشكلت الغرفتان قاعة واسعة يبدو أنها تُستخدم غرفة لعب للأطفال .. وفيما عدا بعض الديكورات واللوحات المعلقة على الجدران، كان المكان عارياً تماماً ..”.

 

مشينا إلى الداخل، وألقينا نظرة إلى ما كانت غرفة طعامنا. كنا كأننا في حلم. تمنينا لو نستطيع تمضية بعض الوقت وحدنا في البيت كي نعيش بهدوء كل تلك الذكريات التي تدفقت على ذهننا، لكن هذا لم يكن ممكناً. كنّا نخشى أن يخرج أحدهم من إحدى الغرف، ويتهمنا بانتهاك المكان (كما حدث للعديد من أصدقائنا الذين ذهبوا لزيارة بيوتهم) .. كنّا نستطيع أن نسمع أصوات أطفال تأتي من الغرفة التي كانت فيما مضى غرفة جلوسنا. طرقنا الباب، فظهرت سيّدتان، إحداهما شابة سمراء، والثانية أوروبية متقدمة في السن، خاطبناهما أولاً بالعربية، لكن لم يبدُ أنهما فهمتا، فسألناهما إن كانتا تتكلمان الإنكليزية، فهزتا رأسيهما نفياً، وهكذا بدأنا نتكلم الألمانية، ففهمتنا السيدة الأوروبية”.

 

“… حاولنا أن نشرح أن هذا بيتنا، وأننا كنا نعيش هنا قبل العام 1948، وأن هذه أول مرة نراه فيها منذ تسعة عشر عاماً. بدا التأثر على السيدة الطاعنة في السن، لكنها بدأت تشرح لنا فوراً أنها هي الأخرى فقدت بيتها في بولندا، وكأننا نحن شخصياً، أو العرب عامة، المسؤولون عن ذلك .. وجدنا أنه من غير المجدي مجادلتها .. تجولنا في البيت غرفة تلو الأخرى: غرفة نوم والدينا، وغرفة نومنا، وغرفة العمة ميليا، وغرفة الجلوس، وغرفة المكتبة، وغرفة الطعام، والمطبخ .. كان البيت بشكل أو بآخر بحالة جيّدة، لكن كل شيء فيه كان مختلفا .. لم يعد بيتنا!”.

 

 

لعل القارئ قد يظن أن الحكاية انتهت هنا، لكنها البداية لعديد التفاصيل بتقنية الاستعادة، أو “الفلاش باك” بلغة السينما، عبر فصول عدة: “طاحونة الهواء وما بعدها”، و”الكولونية الألمانية”، و”القطمون”، و”الرحيل”، علاوة على ملحق ليوميات هالة السكاكيني المفقودة في القدس زمن الحرب

مقالات ذات صلة