“أين تذهبين يا عايدة؟”.. تكريم سينمائي للموتى والناجين من بوسنيّي “سريبرينيتشا”!

يوسف الشايب

نجح الفيلم البوسني المُرشّح لجائزة الأوسكار عن فئة الفيلم غير الناطق بالإنكليزية، حيث فشل العديد من الأفلام في نقل الأبعاد الشخصية لمآسي الحرب والعنصرية البشعة.

 

الحديث هنا عن فيلم “أين تذهبين يا عايدة؟” (?Quo Vadis Aida)، وهو فيلم من تأليف وإنتاج وإخراج ياسميلا زبينيتش (2020)، ومن إنتاج مشترك دولي لاثنتي عشرة شركة إنتاج.

 

 

أقيم العرض الأول للفيلم الاستثنائي والمثير للغضب، في نصب “سريبرينيتشا” التذكاري بحضور العشرات ممّن نجوا من تلك المجزرة التي ارتكبها عسكريون صرب، ومنذ ذلك العرض، أطلق متعصّبون صرب حملة لخفض تصنيف الفيلم على موقع (IMDB) الشهير، إلا أنه واصل نجاحاته العالمية، منذ العرض الدولي الأول في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية (فينيسيا) السينمائي السابع والسبعين، ومن ثم ترشيحه ووصوله إلى القائمة القصيرة للمنافسة على “الأوسكار”، هو الذي حاز على جائزة الجمهور في الدورة الخمسين لمهرجان روتردام السينمائي الدولي، وجائزة أفضل فيلم دولي في مهرجان غوتنبرغ السينمائي 2021، ونافس على غيرها.

 

 

تحيل مشاهد عديدة المشاهد الفلسطيني إلى مشاهد “النكبة”، فثمة كثير من “النكبات” العالمية المسكوت عنها سينمائياً، أو لم تخرج كما كان في “أين تذهبين يا عايده؟”، حيث نجحت ياسميلا في كتابة وإخراج فيلم وازَن ما بين الشخصي والعام، وبمهارة مغناطيسية تزلزل القلوب بل تمزقها، لكن ليس على حساب الفنيّات هنا، وعبر أقصر الطرق، أي إظهار الأمور كما حدثت.

 

 

وعلى الرغم من أن كاميرا ياسميلا لاحقت وجه “عايدة” (جانا دجوريتشيتش) باستمرار، إلا أنها لم تغفل الوجوه الأخرى، وكأن الوجوه وملامحها هي البطل الفعلي للفيلم.

 

بعد التجوال ما بين وجوه الرجال الجالسين على الأرائك، وندرك مصيرهم منذ البداية، نرى وجه “عايدة”، التي نقضي معظم الفيلم رفقتها، هي التي تنخرط في صراع وجودي لإنقاذ عائلتها.. في ذلك الوقت، كانت القوات الصربية تقترب من “سريبرينيتشا”، مع أن قوات الأمم المتحدة الهولندية أكدت للسكان أن البلدة “منطقة آمنة”، وأنه إذا انتهك الصرب ذلك فستنفذ غارات جوية فورية ضدهم، لكن الضربات الجوية لم تأت، ففرّ السكان إلى مجمع قريب للأمم المتحدة.. احتمى بعضهم بالداخل، بينما أجبر آلاف آخرون على البقاء خارجه، بعد أن فاض بمن فيه.

 

 

وسط هذه الفوضى، تجد “عايدة” أحد أبنائها بالداخل وزوجها وابنها الآخر خارج البوابة، ومن هنا تبدأ المعركة لإنقاذ حياتهم جميعاً، خاصة بعد أن يقتحم الصرب المدججون بالسلاح ذلك المجمع، مدعين كذباً بأنهم سيرافقون اللاجئين إلى بر الأمان.

 

يعرّي الفيلم العجز المطلق لقوات الأمم المتحدة الهولندية وفشلها التام في توفير الأمن للذاهبين إلى حتفهم، وهنا نرى الوجوه الهولندية تتسيّد بعض المشاهد، فيظهر فريق كرجال آليين، بينما يجد آخرون أن التجاهل هو الحل الأمثل، فيما ينهار فريق ثالث بالبكاء.. إلا أن كل هذا التراخي كان مناقضاً للحركة المستمرة لعايدة، التي بقيت على قيد العزيمة والقوة، رغم الألم الذي كان بادياً على قسمات وجهها، ونقلته إلينا دون تكلّف، هي التي جعلتنا على الدوام أسرى لذعرها وعجزها أيضاً.

 

 

كان من بين أقسى المشاهد على المستوى الانفعالي، عندما طلبت “عايدة” من طبيب الأمم المتحدة “تهريب” عائلتها، لدرجة أنها عرضت عليه إطلاق النار على أبنائها حتى يكون لديهم ذريعة للمغادرة بعيداً عن حافلات الموت الصربية، لكنه كان صريحاً حين أخبرها، بحكم الزمالة، وبما يعرّي الدور البائس للهيئة الأممية، بأن أياً من سيارات الإسعاف لم تصل إلى المشافي، ما جعل فرص النجاة تتضاءل مع كل دقيقة.

 

ورغم استمرار تركيزها على رحلة “عايدة”، لم تغفل زبينيتش الصورة الأكبر، حيث الآلاف ينشدون النجاة بعد فرارهم من “البلدة” التي لم تعد بوسنية، لتنقل إلى العالم تلك الحقبة الموجعة من جغرافيا نادراً ما ظهرت على الشاشة بهذه الطريقة الإبداعية، بحيث نجحت في تكبير العدسة لجهة فهم حالة المجتمع البوسني قبيل الحرب وأثناءها وبعدها.

 

 

“عايدة”، التي جسدت دورها باقتدار لافت الممثلة جانا دجوريتشيتش، تقرر العودة إلى “سريبرينيتشا”، لاستئناف عملها في التعليم، فتجد أن البيت لم يعد بيتها.. وأن الحياة لم تعد إلى طبيعتها تماماً، فكان السؤال الموجع: هل يمكن أن تتسامح مع من قتل عائلتك أو أبناء جلدتك، واحتل حيّزك الشخصي جغرافيا وذاكرة؟!

 

 

جدير بالذكر أنه عندما اندلعت الحرب الأهلية العرقية العنيفة في البوسنة والهرسك، كانت الكاتبة والمخرجة ياسميلا زبينيتش مراهقة يافعة في سراييفو، حيث قضت السنوات الثلاث التالية في حصار كغيرها، ما شكل ذاكرة لا تُمحى، فشكلت عبر أفلامها حكايات لإعادة استكشاف الحرب والندوب العميقة التي خلقتها في نفوس البوسنيين، ومنها هذا الفيلم الذي سلط الضوء على العنف دون أن يلف الشاشة أو “يطرطشها” بدماء الضحايا، فكان بمثابة تكريم راقٍ للموتى والناجين من بوسنيّي “سريبرينيتشا”.

مقالات ذات صلة