علم فلسطين في القدس: “بسيطٌ كالماء، واضحٌ كطلقةِ مُسدّس”

بدور حسن

لو كانت المنطقة الواقعة بين أسوار القدس مدينةً قائمةً بحدّ ذاتها لكانت واحدةً من أشدّ مدن العالم مراقَبةً”، هذا ما كتبه الصحافيّ ماثيو تلر Matthew Teller في كتابه “أرباع القدس التسعة” Nine Quarters of Jerusalem في إشارةٍ لشبكة الرقابة الإسرائيليّة التي ترصد كاميراتها الـ400 وتمسح كلّ زقاقٍ وعقبةٍ وزاويةٍ في البلدة القديمة في القدس.

ورغم رقابتها الأمنيّة والتقنيّة الصارمة، ما من رقعةٍ تتجلّى فيها هشاشةُ السيادة الإسرائيليّة بالوضوح الذي نراه في القدس عموماً وفي بلدتها القديمة خاصّةً. أو لعلّ الدقّة تقتضي إعادة صياغة الجملة السابقة: لا توجد رقعة تخضع لهذا القدر من الرقابة الصارمة كالتي نراها في القدس وفي بلدتها القديمة، لأنّ سلطات الاحتلال تدرك مدى هشاشة سيطرتها عليها.

فيما تعجزُ عن تمويه هذه الهشاشة كلُّ المحاولات الإسرائيليّة، الماديّة منها والرمزيّة، لفرد العضلات وفرض السيطرة، من إطلاق اسمي مجندّتين إسرائيليّتين (قُتلتا في إحدى عمليات الطعن وإطلاق النار) على ساحة ومدرج باب العامود، وزرعِ ثكنات مراقبةٍ عسكريّة هناك، إلى التنكيل المُمنهج بالفلسطينيّين وإحكام الخناق على أهل المدينة.

تأتي ضمن هذه المساعي الحربُ الإسرائيليةُ على كلّ من يرفع العلم الفلسطينيّ في القدس، علمٌ يصرُّ الاحتلال على تسميته “علم منظمة التحرير الوطنيّ”، لا “العلم الفلسطينيّ”، وذلك ضمن إنكاره المستمر أنَّ الفلسطينيّين شعبٌ ذو ذاكرةٍ تاريخيّةٍ ورموزٍ وطنيّة ووجودٍ سياسيّ سابقٍ وعابرٍ للفصائل والتنظيمات.

 

امرأة فلسطينية تلوح بالعلم الفلسطينيّ على سطح مبنى وُضع عليه العلم الإسرائيلي مقابل المستشفى الفرنسي حيث احتُفظ بجثمان الشهيدة شيرين أبو عاقلة، قبل ساعات من تشييعها في القدس، 13 مايو/ أيار 2022. (عدسة: أحمد غرابلي/ AFP).

يرى البعض أنّها حربٌ هوجاء وغير عقلانيّة ومضرّة بصورة الاحتلال وسمعته، فنجدهم يتساءلون: أيُعقل أن يهاجمَ جنودٌ مدججون جثماناً مسجّىً فقط لأنهم لا يريدون له أن يُلَفَّ بالعلم الفلسطينيّ كما فعلوا في تشييع الشهيدة شيرين أبو عاقلة؟ أيُعقلُ أن يركلَ ويدوسَ أكثرُ من عشرة مجنّدين من “حرس الحدود” الإسرائيليّ شابّةً فلسطينيّةً في الشيخ جرّاح أو في باب العامود أو خارج مبنى الجامعة العبريّة فقط لأنّها أخرجت علماً فلسطينيّاً من جيبها؟ لمَ كلّ هذا الخوف من عَـلَم؟

يبدو ذلك وكأنّه أمرٌ مخالفٌ لما ننسِبُه عادةً للاحتلال من حرصٍ على صورته وعدم إظهار وحشيّته أمام عدسات الكاميرات على الأقل، غير أنّنا نخطئ حين نبالغ في تقدير هذا الحرص: ما من شكٍّ بأن الاحتلال بوزارة خارجيّته وإعلامه يكرّس مواردَ هائلةً لما يسمّى بالـ”هسبرا” أو الببروباغندا، للترويج بأنّه احتلالٌ “مستنير” و”ديمقراطيّ” و”راقٍ” حتى في قمعه. ولكنّ الحصانة المُطلقة التي تتمتع بها سلطاتُ الاحتلال والطبطبة الدائمة التي تحظى بها من الغرب تمنحها مساحةً شاسعةً للإمعان والمغالاة بالقمع الفجّ والعلنيّ لمعرفتها أنّها لن تضطرَّ لدفعِ أي ثمنٍ فعليّ.

نرتكبُ خطأً أكبر حين نعتبرُ رفعَ العلم الفلسطينيّ في القدس مجرّد ردّ فعلٍ رمزيٍّ دفاعيّ، فرفعُ العلم، في سياقاتٍ معيّنة، يتجاوز حدود المعركة الرمزيّة، على أهمّيتها، ليصبحَ فعلاً سياسيّاً تحرّريّاً يستعيد خلاله الفلسطينيون إرادتَهم السياسيّة وسيادتهم على المدينة. يكتسب رفع العلم في القدس قيمةً لا تختلفُ كثيراً عن تلك التي يحملها إلقاء حجرٍ أو زجاجة مولوتوف، لأنه يُهدِّد السيادة الإسرائيليّة ويعرّي هشاشتها ويُعلن أنها طارئة وعابرة.

أحد عناصر شرطة الاحتلال ينتزع علماً فلسطينيّاً من متظاهرة فلسطينيّة رفعته في وجه مسيرة الأعلام الإسرائيلية، 15 يونيو/حزيران 2021 (Getty Images).

مع كلِّ علمٍ يصادِرُه الجنودُ أو ينزلونه تنبتُ من حيث لا يعلمون أعلامٌ أخرى، ومع كلّ شابٍ يعتقلونه أو يهاجمونه لأنّه رفع العلم يظهر غيره الكثيرون يجمعهم استعدادُهم لتحمّل الضرب واللكمات دفاعاً عن حقّهم في رفع علمهم في مدينتهم. .

يُلزِمنا هذا السقفُ المرتفع من التحدّي الذي يفرضه الفلسطينيّون حين يرفعون العلم في المدينة المحاصرة برفعِ سقف الخطاب المُدافع عن والمتمسّك برفع العلم ليتجاوز السقف الحقوقيّ والقانونيّ. لا ملاذَ من الجانب القانونيّ حين يريد المحامون تمثيلَ شابٍّ اعتُقل لأنّه رفع العلم، ولكن نقاشَ القضية الشعبيّ والعام، بخلاف القضائيّ، يجب أن يتجاوز وجهة نظر القانونين الإسرائيليّ والدوليّ.

لا ينتظر المقدسيّ الذي يرفعُ علمَه في وجه المستوطنين والجنود في مدرج باب العامود “خاوة” رأيَ المستشار القضائيّ الإسرائيليّ في “قانونية رفع العلم” أو قرار وزير “الأمن الداخليّ” الذي قد يتأثر بمصطلحات كـ”سلامة الجمهور” و”الأمن العام”. لكما لا يختزل رافعو الأعلام في القدس العَلَمَ بأبعاده الرمزيّة ولا يدافعون عن حقّهم بناءً على هذه الاتفاقية الدولية أو تلك أو وفقاً لحقّ التعبير عن الرأي. يرى الفلسطينيّون في العلم تعبيراً عن السيادة السياسيّة ومحاولات استعادة المدينة، ولو مؤقّتاً باللجوء إلى أسلحة المستضعفين -ورفع العلم في وجه المحتل هو سلاح المستضعفين. وهذه الاستعادة أرحبُ وأعظم من أن نطوِّقَها بمفاهيمَ حقوقيّةٍ أو قانونيّة.

أما جغرافيّاً فالمعركة على العلم تتجاوز حدود مدينة القدس، ولو أن القدس هي مركزها: رأيناها ولا نزال في الجامعات الإسرائيليّة، كجامعة بئر السبع، حين أثارَ رفعُ الطلبة الفلسطينيّين العلم الفلسطيني في ذكرى النكبة في الجامعة هذا العام زوبعةً من التهديد والتحريض ونداءات الانتقام. بلغت هذه الحملة ذروتها (حتى الآن) حين توعّد أحد أعضاء البرلمان (الكنيست) الإسرائيلي الفلسطينيّين بنكبةٍ ثانية، فيما اقترح وزير المالية إفيغدور ليبرمان معاقبة الجامعة وسحب التمويل عنها لأنّها “سمحت” للطلاب برفع العلم.

مُجدّداً، تبدو هذه التهديدات والنداءات غير عقلانيّة، ولكنّها، خاصةً حين يتعلّق الحديث بالفلسطينييّن في الأراضي المحتلة عام 1948، تعكسُ السعي الصهيونيّ المستمر لمحو الهويّة الفلسطينيّة الجامعة، وهو سعيٌ يصل حدّ الهوس. تُكرّر الرواية الصهيونيّة أن الفلسطينيّين “شعبٌ مُختلق” وأنّ الفلسطينيّين في أراضي الـ1948 ليسوا فلسطينيّين أصلاً، وإذ بهؤلاء يرفعون علم “الشعب المختلق” مؤّكدين انتماءهم له وطنيّاً وسياسيّاً.

وهنا تكمُنُ ذخيرةٌ رمزيّةٌ هائلة في رفع الفلسطينيّين من أبناء الجيل الثالث للنكبة العلمَ الفلسطينيّ في الجامعة التي تحمل اسم “دافيد بن غوريون”، أحد مهندسي ومؤسّسي النظام القائم على اقتلاعهم وتهجيرهم، وفي بئر السبع تحديداً، في قلب المنطقة التي تعرّضت وتتعرّض لإحدى أكثر حملات التطهير العرقيّ عدوانيّةً. ولكن الرمزية عَجْزُ البيت والفِعلُ السياسيّ التحرّري صدّْرُه.

مستوطن إسرائيلي ينزع العلم الفلسطيني المعلق وسط سوق بلدة حوارة جنوب نابلس بالضفة الغربية. 12 مايو/ أيار 2022. (عدسة: ناصر اشتية).

اتّسعت رقعة المعركة على العلم مؤخّراً لتشملَ مناطق لطالما اشتُغِل على إقصائها من الحالة النضاليّة الفلسطينيّة، كبلدة حوّارة على طريق نابلس-القدس، والتي شهدت هذا الأسبوع مواجهاتٍ يوميّةً بين الشبّان الفلسطينيّين وقوات الاحتلال والمستوطنين. بعد ما رأوْهُ من هجومٍ على العلم في القدس وتحديداً في مراسم تشييع الشهدين شيرين أبو عاقلة ومن ثمّ وليد الشريف، بادر الشبّانُ في حوّارة برفع العلم في الشارع المركزيّ الذي تمر منه آليّات جيش الاحتلال ومركبات المستوطنين، وردَّ المستوطنون، بحماية الجنود، بإنزال العلم الفلسطينيّ واستبداله بالعلم الإسرائيليّ، ليعود الشبّان ويرفعوا العلم الفلسطينيّ ومن ثم يقمعهم ويُغلق مداخل البلدة بالسّواتر الترابيّة.

لتلك المواجهات في حوّارة جذورها الأعمق التي تتجاوز مسألة العلم (وتتجاوز نطاق هذا النص) غير أنّها، كمواجهات القدس وتظاهرة رفع العلم في جامعة بئر السبع، تكثّف القيمة الثوريّة والتحرريّة التي يحملها العلم الفلسطيني.

ليست هذه القيمة مطلقةً وثابتة، لأنَّ رفع العلم، كغيره من الأفعال، لا يحدث في فراغٍ ولا يُعزلُ عن سياقه. بعد يومين فقط من تشييع الشهيدة شيرين أبو عاقلة في القدس، ذاك التشييع الذي جابه فيه العلمُ قمعَ الاحتلال وامتلك سماء باب الخليل في مشهدٍ جعلنا نلمسُ التحرير براحة اليد، ارتفعت الأعلامُ الفلسطينية فوق المباني والسيارات في رام الله وحدّقتْ في وجهك أنّى سرت.

في رام الله ذاتها، وخلال قمع أجهزة أمن السلطة الفلسطينيّة المتظاهرين المحتجين على اغتيال الناشط نزار بنات في يونيو/حزيران 2021، لوّح “سحّيجة” السلطة بأسرابٍ من الأعلام الفلسطينيّة وكأنهّم يريدون القول للمتظاهرين: “فلسطين والسلطة الفلسطينية سيان، أنتم أعداء الوطن ونحن المدافعون عن رايته. باسم فلسطين وعَـلَـمها نمتلك الحقَ بقمعِكم وإسكاتكم”.

قوات الاحتلال تعتقل رجلاً يحمل العلم الفلسطيني خلال مظاهرة في حي الشيخ جراح في القدس المحتلة، 31 ديسمبر/كانون الأول 2021 (عدسة: أحمد غرابلي/AFP).

في القدسِ وحوّارة وفي الأراضي المحتلة عام فلسطينيّون ضُربوا وهوجِموا واعتُقلوا لأنّهم رفعوا العلم الفلسطينيّ، وفي رام الله فلسطينيّون ضُرِبوا وهوجِموا واعتُقلوا بينما كان المعتدون عليهم يلوّحون بالأعلام الفلسطينيّة. في القدس يصبح العلم سلاح المستضعفين وتأكيداً على هشاشة السيادة الإسرائيليّة، وفي رام الله، في ذكرى النكبة أو فيما يسمى بـ”عيد الاستقلال الفلسطيني” يبدو العلم وكأنّه سلعة تجاريّة ودعاية بائسة.

وهكذا لا يتجرّد العلم، حين يُرفع في المسيرات الكرنفاليّة والاحتفالات الرسميّة المُحابية للسلطة من ذخيرته الرمزيّة فحسب، بل يتحول كذلك إلى قطعةِ قماشٍ خاوية، خالية من أي قيمةٍ تحرّرية. هنا، أيضاً، العلمُ تعبير سياسيّ ولكن في هذه الحال، يغدو تجسيداً للنظام القائم القامع الذي تمثله السلطة الفلسطينيّة.

يُكتبُ هذا النصُّ و“رقصة الأعلام” على الأبواب، تلك المسيرة السنويّة التي يقتحم فيها آلاف المستوطنين بحماية شرطة الاحتلال البلدة القديمة من باب العامود ويرقصون بأعلامهم الإسرائيليّة احتفالاً بما يسمّونه “ذكرى توحيد القدس”. تجبرُ سلطات الاحتلال في هذا اليوم من كل عام المحالَ الفلسطينيّة في البلدة القديمة على إغلاق أبوابها، وتنصِب الحواجزَ لمنع الفلسطينيّين من الوصول لباب العامود، وتعتدي على أولئك الذين تمكّنوا، بفضل العناد المقدسي الشهير، من عبور الحواجز وتجاوز التقييدات.

شهد هذا العام حملة اعتقالاتٍ واستدعاءات وإبعادٍ استباقية استهدفت ناشطي المدينة في محاولة لقمعِهِم قُبيل مسيرة المستوطنين، ولكن كما هي الحال في كلِّ عام، يقفُ أبناء القدس وبناتها في باب العامود يرفعون العلم الذي يؤكد سيادتهم السياسيّة عليها. وهنا نستعيرُ من الشاعر السوريّ رياض الصالح الحسين لنقول إنّ العلم الفلسطينيّ في أيديهم وفي سماء مدينتهم “بسيطٌ كالماء، واضحٌ كطلقة مسدّس”

مقالات ذات صلة