غزّة تعيد تعريف المقاومة

المهدي مبروك

حرير- حين قرّرت الولايات المتحدة في بداية الألفية الثانية تصنيف حركة المقاومة الإسلامية (حماس) منظمة إرهابية، وتبعها الاتحاد الأوروبي سنة 2003، لم نكن ندري تماماً التبعات الخطيرة التي ستوسّع آثار هذه القرار ونتائجه. كانت تلك البلدان ما زالت تحت صدمة الهجمات التاريخية وغير المسبوقة التي قادها تنظيم القاعدة على الولايات المتحدة. ورغم أن المحكمة العامة للاتحاد الأوروبي قرّرت سنة 2015 إزالة “حماس” من السجل، ما أثار آنذاك جدلاً كبيراً، فإن تلك الخطوة الشكلية لم تكن لها تبعات سياسية تذكر. قليلة هي البلدان التي ما زالت تعتبر “حماس” منظمة فلسطينية وطنية، على غرار الصين وروسيا، في حين عمدت بلدان أخرى إلى تجنّب التصنيف، مثل بريطانيا وسويسرا، لاعتبارات عديدة.

ورغم أن التحقيقات لم تعثر على أي صلة بين “حماس” ومنفذي عمليات “11 سبتمبر”، فإنّ هذه البلدان تمادت في وصم الحركة بالإرهاب وتصنيفها على ذلك الأساس. تمّت كل تلك الخطوات المتسارعة التي تتالت، وشملت بلداناً غربية كثيرة بمباركة إسرائيلية. وجدت هذه البلدان في عملياتٍ انتحاريةٍ قامت بها كتائب عز الدين القسّام، الذراع العسكري للحركة، في شهر فبراير/ شباط سنة 2002 (أربع عمليات استشهادية متتالية في القدس)، ذريعةً من أجل هذا الوصم وحجّة لتصنيفها ضمن الحركات الإرهابية. راجعت “حماس” آنذاك هذا الأسلوب الجهادي وكفّت عن تبنيه تدريجياً أو تكاد. وتفيد دراسة أنجزتها جامعة هارفارد الأميركية بأن سنتي 2001 و2002 كانتا قد سجّلتا العلميات الأكثر ارتفاعاً (41 عملية في سنة 2001، و47 في سنة 2002). وجرى ذلك كله في مناخٍ عالمي، ارتفع فيه هذا الأسلوب القتالي، خصوصاً وقد تبنّته منظّمات إرهابية، على غرار القاعدة وطالبان وداعش… إلخ. ويبدو أن هذه الأسباب كانت كافية لتدفع “حماس” إلى التخلي عن هذا الأسلوب. ومع ذلك، أصرّت إسرائيل وحلفاؤها على تثبيت ذلك الوصم، لأنه مثمرٌ من حيث الخلط المتعمّد بين الإرهاب والمقاومة.

ربما ظلّ الجدل الأكاديمي جارياً بشأن تعريف الإرهاب، وعُقدت آلاف المؤتمرات والملتقيات للخوض في مختلف التعريفات التي وردت خلال العشريتين اللتين تلتا عمليات 11 سبتمبر. ولكن الالتباس ظلّ غامضاً وكثيفاً بشأن الحدود التي تسيّج مفهوم الإرهاب، حتى يبدو مميّزاً عن مفهوم المقاومة، فإذا كان الإرهاب هو هذا القتل العبثي (أو التهديد به) للمدنيين، لأسبابٍ دينية أو سياسية أو عرقية، فإن هذا المفهوم ينطبق تماماً على ما يقوم به الكيان الإسرائيلي منذ النكبة، وكانت تقترفه العصابات الصهيونية. مع ذلك، حرص الغرب، سواء من خلال معرفته الأكاديمية أو مختلف المنظمات العالمية التي ظلت تدور في فلكه، على لصق الإرهاب بالإسلام والمسلمين. والحال أن جرائم إرهابية فظيعة ارتكبتها جماعاتٌ ومنظماتٌ لا دين لها أو هي تنتمي إلى ديانات أخرى.

الإرهاب الإسلامي” الذي أفلح الغرب في ترويج اعتباره مثالاً لتعريف الإرهاب، وإقناع راسمي السياسات العالمية بذلك، كان قد صاغ معرفة علمية ورأياً عامّاً واسعاً، حتى بدا من الصعب أن نتصوّر إرهاباً غير “الإرهاب الإسلامي”. ويدلّ تصريحٌ أدلى به يوماً الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش، وأفاد بهذا، على أن الأمر ليس مجرّد زلّة لسان أو تسرّع وجب تعديله لاحقاً، بل إنه عقيدة في السياسة الأميركية والغربية ستترسّخ شيئاً فشيئاً.

لم تُناقش الجماعات العلمية العربية، خلال أكثر من عقدين، هذا المفهوم، وتبنّته عموماً بكل تفاصيله، كما صاغها الغرب. لقد ترحّل المفهوم ليستقرّ في جامعاتنا وممارساتنا السياسية، ولبسنا تلك النظرات التي ننظر منها إلى الإرهاب.

جيّشت عمليات إرهابية عديدة اكتوت بها بلداننا عواطفنا وشحنتها استنكاراً لهذا الإرهاب. ومع ذلك، علينا أن نُعيد تعريف الإرهاب حتى نميّزه عن المقاومة. لقد دافعت الشعوب عن أوطانها بكل ما يمكن أن يبتكره العقل البشري والإرادة الإنسانية. حين تستحضر بطولات الفيتناميين والجزائريين والأيرلنديين وغيرهم في مقارعة الاحتلال، لا يخطر في بالنا مطلقاً أن نصف كل تلك المقاومة الشرسة والنبيلة التي أبدوها بأنها إرهاب. ما زالت حركات التحرّر تلك تلهم شعوباً عديدة.

تمنحنا غزّة، بكل البسالة التي بها تقاوم العدو الصهيوني المحتلّ، في مناخ من التواطؤ والعجز، درساً بليغاً تسنده الوقائع على الأرض، أن المقاومة ليست إرهاباً. تحتضن الجماهير العربية، ومعها كثيرون من أحرار العالم وشعوبه ونخبه النيّرة والمنصفة، عاطفياً وفكرياً، هذه المقاومة، وترفض تماماً وصمها بالإرهاب.

مقالات ذات صلة