هل تحتاج روسيا فبركاتٍ لتبرير حربها؟

جيرار ديب

حرير- طال أمد الحرب الأوكرانية، وهذا ما لم يكن في حسبان القيادة الروسية، فكل التقارير كانت تتوقع هجومًا سريعًا يرعب الغرب الأوروبي، ويجعله يستسلم أمام جبروت الآلة العسكرية الروسية. وأصبح المطلوب زيادة منسوب الثقة عند الشعب الروسي في قيادة الرئيس فلاديمير بوتين سياساته الخارجية، بعدما بدأ التململ من كثرة الحروب التي أرهقت الاقتصاد، وانعكست سلبًا على الوضع العام الروسي.

مضى العام الأول على الحرب، ولم يحقق الروسي مكاسب تُذكر يستطيع من خلالها محاكاة هواجس شعبه، وإقناعه بأن تلك الحرب، رغم تكلفتها البشرية والاقتصادية الكبرى، لا بدّ منها لحماية الأمن القومي الروسي.

لم يكن حساب الرئيس بوتين في الحقل يتناسب مع حسابات بيدر الحرب الأوكرانية، فالمطلوب من هذه الحرب أن تكون مناسبة لزعزعة وحدة الغرب وإضعاف عزيمته على القتال، لكن العكس هو ما حصل، إذ تجلّت الوحدة الغربية كما لم تكن من قبل، وازداد إصراره على هزيمة بوتين في تلك الحرب وعدم إعطائه فرصة في الانتصار، لهذا زاد الدعم الغربي لكييف في الأسلحة الحديثة المتطورة، رغم تهديدات روسيا وتحذيراتها.

عزلة روسيا الأممية التي فرضتها العقوبات الغربية، إضافة إلى استنزاف مواردها بسبب تمويلها الحرب، أصابا الرأي العام الروسي بشيء من الإحباط. لكن بروز تطوّرات مستجدة في ساحة المعركة أثار تساؤلات متابعين كثيرين، هل ما حصل أخيرا هو فبركة روسية تهدف إلى تحفيز الشعب على دعم سياسات بوتين؟ أم فعلًا بدأ الجيش الأوكراني بقلب معادلة الحرب ونقلها إلى الداخل الروسي؟

قال حاكم العاصمة الروسية موسكو إن طائرة مسيّرة تحطمت في المدينة، في محاولة لاستهداف البنية التحتية للمدينة. وقالت وزارة الدفاع الروسية في بيان: “حاول نظام كييف، الثلاثاء 28 فبراير/ شباط الماضي، استخدام طائرات من دون طيّار لمهاجمة البنية التحتية المدنية في منطقة كراسنودار وجمهورية أديغيا، وتمّ تحييدها”.

هذا ليس الحادث الوحيد الذي حصل أخيرا داخل الأراضي الروسية، بل جذبت وكالات الإعلام الدولية الأنباء عن هجوم تعرّضت له مقاطعة بريانسك الروسية المحاذية للحدود مع أوكرانيا الخميس 2 مارس/ آذار الحالي، من “وحدات من الكوماندوز الأوكراني” التي توغلت إلى البلدة الحدودية، وأطلقت النار على سيارة متحرّكة قبل أن يُحتجز أفرادها رهائن.

نفت كييف الروايتين الروسيتين، ورفضت الحديث عن أي تورّط لأي مجموعة منها بالقيام باعتداءات كهذه داخل الأراضي الروسية، نافيةً أي صلة لها في هذه الأحداث الغامضة. ورجّحت كييف أن تكون القوات الخاصة الروسية هي من دبّرت تلك الاعتداءات لـ”تخويف الروس” وحثهم على مطالبة حكومتهم باستخدام كل الوسائل لحمايتهم. كما ورجّحت المصادر الأوكرانية أن تكون مجموعات معارضة لسياسات الكرملين هي من نفّذت الهجوم، تمامًا كما فعلت المعارضة البيلاروسية، حيث أكّد زعيم المنطقة المناوئة للحكومة البيلاروسية، ألكسندر أزاروف، أن منظمته استهدفت طائرة الإنذار المبكر الروسية من طراز بيريف -A50 التي كانت جاثمة قرب قاعدة ماتشوليشي الجوية في آخر الشهر الماضي (فبراير/ شباط).

ما زاد من الغموض غياب أي معلومات عن طبيعة تطوّرات الوضع في المنطقة التي شهدت الحادث. كما أن اختيار موقع الهجوم في مناطق الشمال، بعيدًا عن خطوط التماسّ في الجنوب الأوكراني، أثار تساؤلات إضافية، فضلًا عن وقوع الهجوم على مقربة من الحدود البيلاروسية. ورغم إعلان وزارة الدفاع الروسية بشأن الهجوم، إلا أن كييف رفضت تلك الادّعاءات، ووصفتها بأنها فبركات روسية، تهدف إلى ترويع سكانها بهدف التأثير على قراراتهم، وجعلهم أسرى الخوف والترويع لدعم خطّة بوتين كما هي. لهذا تتّهم أوكرانيا روسيا بتدبير أعمال “استفزازية وهمية”، لتبرير الهجوم العسكري المستمر منذ أكثر من عام.

ليس بوتين الوحيد في التاريخ الذي لجأ إلى الفبركات الوهمية لتبرير حربه، أو حتى لإقناع شعبه بالاستمرار في دعمه في تلك الحرب، التي قد لا يتأخر كثيرًا على وصفها “بالحرب المقدّسة”. ففي عام 1933، اندلعت الحرب العالمية الثانية، وهي الأكثر دموية في التاريخ الحديث، حصدت أرواح 60 مليون مدني وعسكري في عشرات الدول. وكانت فيها، وهي الحرب الأكثر أهمية في القرن العشرين، قرارات مصيرية أثّرت فيها فبركات ومعلومات زائفة، بما يتضمّن بدء الحرب، ودخول أميركا فيها، والمساعدة في هزيمة النازيين.

تحتاج روسيا، المفاجأة من أداء جيشها، تبريرات للاستمرار في هجومها على أوكرانيا، فهي لم تزل تنتظر تحقيق انتصار في الميدان، كي تذهب إلى طاولة المفاوضات بشروطها. لهذا من غير المستغرب أن تُقدم روسيا على القيام بهذه الأعمال التخريبية، كي تبرّر لنفسها، وأمام الرأي العام الدولي، استخدام أسلحة غير تقليدية في ساحة القتال. لهذا لا ينفكّ مسؤولون روس، في طليعتهم الرئيس الأسبق لروسيا دميتري ميدفيديف، يهدّدون بشنّ روسيا ضربات نووية إن شعرت بأن أمنها القومي في خطر.

لا تنفع فبركات وهمية كثيرة يحاول بوتين التلطّي خلفها لاستمرار عمليته العسكرية الخاصّة، ولا يجدي نفي كييف القيام بمثل هذه الأعمال العسكرية، لأنّ الحرب في أوكرانيا أخذت منحى مختلفا، حيث سيكون عنوان المعركة “التصعيد” في ظلّ تحذيرات موسكو للدول الغربية من استمرارها بتقديم الدعم العسكري لكييف.

مقالات ذات صلة