السعودية والصين… العالم يتغير

محمود الريماوي

حرير- بين التعليقات النادرة على زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، الرياض، يبرز ما ورد عن البيت الأبيض في واشنطن من تعليق، وفيه أن هذه الزيارة التي بدأت الأربعاء، 7 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، “مثال على محاولات الصين بسط نفوذها في أنحاء العالم”، وبما يعنيه ذلك التعليق الأميركي الرسمي، من أن إثبات بكين عكس ذلك، أي عدم سعيها إلى بسط النفوذ في أرجاء العالم، يقتضي أن يمتنع الرئيس شي أو أي من المسؤولين الصينيين عن تلبية الدعوات الموجهة لهم من نظرائهم لزيارة دولهم والالتقاء بقادتها. علما أن التعليق الأميركي يطاول البلد المضيف أيضاً، فقد كان يتعين، حسب منطق البيت الأبيض، ألا تساعد الرياض، باستقبالها الضيف الكبير، الصين على بسط النفوذ، وربما يحتاج الأمر لأن تنسق مع واشنطن تنظيم زيارات مسؤولي دول العالم الرياض.

يعكس ردّ الفعل هذا قدراً من الانفصال عن الواقع، فالعلاقات السعودية الصينية ليست حديثة العهد، ولئن كان قيام علاقات دبلوماسية بين البلدين قد تأخر إلى العام 1990، فقد شهدت العقود الثلاثة الأخيرة زخماً متدرّجاً ومتنامياً في علاقات الجانبين عوّض عن ذلك التأخير، إذ شمل جوانب سياسية واقتصادية وعسكرية متشعبة. وقد ترافق ذلك مع بدء انطلاقة الصين لكسر عزلتها الدولية، وشقّ الطريق نحو اشتراكية السوق والتوسع في التصنيع، كما تزامن ذلك مع سعي الرياض إلى تنويع علاقاتها الدولية، إذ أقامت الرياض علاقات دبلوماسية مع كل من موسكو وبكين في العام ذاته (شهد الزلزال السياسي الكبير الذي أصاب المنظومة الشيوعية)، وكذلك العمل على تنويع مصادر الدخل الوطني، والانفتاح على بلدان وأسواق جديدة في عالمنا.

وبينما ذكرت واشنطن أن الزيارة لم تفاجئها، إلا أن ردّة الفعل الانفعالية على الحدث تُبطن مفاجأة بما يجري، بل تشاؤماً من الاتجاه الذي ينبئ به هذا التطور. ويمثل ذلك، في حد ذاته، مشكلةً للعلاقات بين القوى الكبرى (أميركا والصين) وللعلاقة بين قوة كبيرة (أميركا) وأخرى حليفة (السعودية)، فلطالما تحدثت واشنطن، بما في ذلك أدبيات الإدارة الديمقراطية الحالية، عن تنافس بينها وبين الصين، وعن حرصها على عدم تحويله إلى صراع. كما اعترفت واشنطن، مثل بقية عواصم العالم، بالتطور الاقتصادي المتسارع للصين والتقدّم التكنولوجي الهائل الذي حقّقه هذا البلد في العقدين الأخيرين، ما يجعل من توسيع علاقاته وتعميقها مع دول شتى في عالمنا أمراً طبيعيا ومتوقعاً، فوتائر التطوّر والتقدم لا بد أن تنعكس في نسج علاقات تعاون متبادل مع دول عديدة، ومنها السعودية. وهذه لم تعد كما كانت قبل ثلاثة عقود، فقد انضمّت إلى مجموعة العشرين، وكسرت الجمود الذي كان يعتري اقتصادها والحياة العامة لشعبها، وتعزّز وزنها الاقتصادي والجيوسياسي، رغم تحدّيات متزايدة من دولة إقليمية هي إيران، ورغم الفشل في بناء كتلة عربية وازنة ومتجانسة لمواجهة التحدّيات، ومنها التحدّي الإسرائيلي، والذي يسعى أصحابه إلى إظهار التقدّم الذي أصاب الدولة العبرية، والاستعداد لوضع خبراتها الأمنية لمواجهة التحدّي الإيراني، مع التستر الإسرائيلي على أن دولتهم ما زالت تشكل مصدراً رئيساً للتوتر في الإقليم، متمتعة في ذلك بدعم أتوماتيكي من واشنطن التي تتغاضى، خلال ذلك، عن أنها مهّدت الطريق، وهيأت الأجواء لتمدّدالنفوذ الإيراني في العراق، وفعلت الشيء نفسه في سورية، بداعي أن محاربة عصابة داعش الإرهابية تتقدّم في الأهمية على وقف نفوذ إيران التوسعية، وهو ما أثار شهية الأخيرة وحفزها على بسط نفوذها على اليمن، ومحاولة تهديد السعودية ودول الخليج من هناك. وفي هذا المناخ من اضطراب المعادلات الإقليمية، كان من الطبيعي أن تتجه السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي إلى تنويع مصادر تسلحها من مراكز دولية في الغرب والشرق، ومنها الصين التي تتمتع بسياسة خارجية متماسكة، وبمنظور استراتيجي واضح، يقوم على تعزيز الفرص الاقتصادية والاستثمارية وتضييق أوجه الخلافات السياسية متى وجدت، وهو منظورٌغير قابل للتقلبات كما هو الحال مع واشنطن، سواء في عهود الجمهوريين أو الديمقراطيين. ومع ذلك، ما زالت واشنطن في علاقتها مع الحلفاء في منطقتنا أسيرة الماضي، إذ تنظر إلى هذه العلاقة من منظورالحرب الباردة السابقة، وما يترتب على ذلك مما كان سارياً قبل أزيد من ثلاثة عقود، وذلك بدفع الحلفاء إلى قصرعلاقاتهم المتينة مع أميركا ودول الغرب، والاحتفاظ خلال ذلك بأدنى العلاقات مع دول الشرق، انطلاقاً من أن العالم مقسوم إلى معسكرين لا غير.

غير أن ما أثار واشنطن هذه المرّة أن الرياض قد نظّمت للضيف الصيني ثلاث قمم تجمعه الأولى بالقيادة السعودية والثانية بقادة دول مجلس التعاون والثالثة بقادة عرب، في مطابقةٍ مع البرنامج الذي تم تنظيمه للرئيس الأميركي، جو بايدن، في منتصف يوليو/ تموز الماضي خلال زيارته السعودية. مع ما في ذلك من رسالة جلية أن الرياض، إذ تنظر إلى علاقتها مع واشنطن أنها ذات طابع استراتيجي، فإن علاقتها مع بكين تتجه إلى أن تكون بدورها ذات منحى استراتيجي، وإن غلبت عليها الشراكة التجارية والتسهيلات الاستثمارية المتبادلة، إلا أنها لا تخلو من جوانب شديدة الأهمية، مثل التعاون النووي للأغراض السلمية والتعاون في مجال الصناعات الدفاعية، وصولاً إلى التعاون في مجال الطاقة المتجدّدة والأمن السيبراني، وحتى في المجال النفطي، بإقامة صناعة تحويلية صينية سعودية لخام النفط السعودي الثقيل. بل زاوجت وسائل إعلام سعودية، في مواكبتها زيارة شي، ما بين “رؤية 2030” ومبادرة “الشرق الأوسط الأخضر” السعوديتين، وبرنامج “الحزام والطريق” الصيني، وهي مبادرات سوف تمتد آثارها وآلية التعاون فيها إلى ما بعد العام 2030، بما يدلل على المدى الذي يهيئه البلدان لتطوي علاقتهما، فيما تبدو العلاقة المزدهرة المتينة والمفعمة بالطموح بين واشنطن والرياض وكأنها جزء من الماضي وذكرياته السياسية.

وأياً كان الاتجاه الذي يذهب إليه العالم، فإنه يتغير، حقا يتغير. وفي زمنٍ لم يعد فيه محل لليقين بما يتعلق بمعادلات القوة والنفوذ، وطبيعة العلاقة بين الكتل الاقتصادية والمكونات السياسية المختلفة.

مقالات ذات صلة