لبنان أم نزع سلاح «حزب الله»… أيهما أولاً ولماذا وكيف؟

سامح المحاريق

حرير- أيهما يسبق الآخر، استعادة لبنان أم نزع سلاح حزب الله؟ كما تبين أنه لا يمكن استئناف الحياة الطبيعية في لبنان مع سطوة حزب الله على المشهد السياسي في السنوات الأخيرة، فلا شيء يوحي بأن نزع سلاح الحزب سيمكن لبنان من العودة إلى الحياة المأمولة، ولا من التأسيس لتنمية تحتاجها لبنان بعد العطب المؤسسي الذي عايشته وتهالك بنيتها التحتية على العديد من الأصعدة.

ما هي المرحلة التي يريد اللبنانيون أن يعودوا لها، وأي حقبة من تاريخهم يفضلون أن تكون نموذجا لرحلة خروجهم من أزمة طويلة وممتدة، لعلها بدأت فعليا منذ 1957، ولم تكن الحرب الأهلية وبقية المحطات الصدامية سوى نتائج لسؤال كبير يتعلق بهوية لبنان الوطنية، ومدى قدرتها على تسوية الأزمات الاجتماعية المتواصلة في الواقع الطائفي، الذي لم تتمكن الدولة من تطويعه ليفرض نفسه على كل المسارات في لبنان.

يبدو نموذج الدولة اللبنانية واقعا في حرب من التصورات، فعندما قدمت لبنان نفسها بوصفها سويسرا الشرق، لم يكن ذلك يعني سوى سيادة بعض أنماط الحياة لطوائف معينة، وطبقات بعينها من طوائف أخرى، وأصبحت بيروت وبعض المناطق هي لبنان الأسطورة، والنموذج المشتهى لتعايش يقوم على وفرة ما تتلقاه من عوائد سياحية، ولكن ما الذي كان يحدث في المجتمعات الفقيرة والمهمشة التي تركت تحت وصاية تحالفات اجتماعية، استفادت من تمثيل هذه الطبقات، واحتكار الحديث نيابة عنها، ولم تقدم شيئا في المقابل لأبنائها، الذين وجدوا أنفسهم معزولين وغير قادرين على محاكاة النمط السائد في بلادهم، وهو الأمر الذي حقق حالة من الاغتراب داخل طوائف كثيرة. لم تكن الحرب الأهلية طائفية بالمعنى الكامل، لم يقتل اللبنانيون بعضهم لمجرد أنهم مختلفون في ما يعتقدونه تجاه السماء، فالسبب الرئيسي كان الصراع على الأرض ومواردها وفرصها، والفلسطينيون لم يكونوا سوى عاملٍ محفز للحرب، وليس سببا رئيسيا لها، فالواقع أن اللاجئين الفلسطينيين الفقراء تحالفوا مع الفئات الفقيرة من بعض الطوائف، ومن هذا التحالف خرجت التشكيلات العسكرية في الطائفة الشيعية، ولم يكن مستغربا أن يطلق الإمام موسى الصدر تسمية المحرومين، التي كانت الأساس لحركة أمل، التي بدأت في تدريب الشباب الشيعي، ليخرجوا بعد ذلك بحزب الله في مرحلة متأخرة من الحرب الأهلية، ولتمثيل فئات أخرى داخل الطائفة وداخل لبنان كله. مع أنهم حققوا كثيرا من المكتسبات الاقتصادية في ظل وجود الدعم الإيراني، إلا أن أبناء الضاحية الجنوبية ما زالوا يستخدمون الدراجات النارية الصغيرة في تظاهراتهم التي تنطلق لشارع المطار في رسالة بأنهم يمكن أن يعزلوا لبنان عن العالم، وهذه الدراجات التي يتمدد وجودها وسطوتها وتهديدها للمواقع الثرية في بيروت، تشكل جرس الإنذار المبكر لما يمكن أن تؤول له الأحداث، مع التصعيد في ملف نزع سلاح حزب الله، وما يقال عن حصرية السلاح بيد الدولة.

تقوم وجهة نظر الدولة على ضرورة حصرية السلاح من أجل العودة إلى وظائفها الكاملة، وشمول جميع اللبنانيين في مشروعها، وهو المشروع غير الواضح والطويل بالضرورة، في ظل أن ما تمتلكه الحكومة والمؤسسات في لبنان لا يعدو مجموعة من الوعود والآمال العريضة، والملفات والمطالب أمامها كثيرة ومتراكمة، وبعضها معقد في تفاصيله، وعنيد في آثاره وتداخلاته، ولا يرى الحزب في المقابل، أي قدرة في الدولة على استيعابه كوظيفة، ولا لاستيعاب المنتسبين له، وأعداد من ربطوا حياتهم بالحزب وأنشطته تصل إلى عشرات وربما مئات الآلاف، وكل ما يرونه أن الحزب منزوع السلاح سيكون كيانا واهنا لاستعادة لبنان التي قدمت له نسخة التهميش والإقصاء في السابق. لا يرتقي تسليح التنظيمات الأخرى، التي تتبع بعضا من الطوائف إلى نوعية التسليح الذي يتوفر لحزب الله، ولكن لا توجد ضمانات بألا يتم تسليح بعض الأطراف داخل لبنان بصورة تكسر التوازن، وتؤسس لواقع جديد بحيث تتغير هوية السلاح من غير أن تتحقق الحصرية للدولة، خاصة أن الحكومة الحالية هي حكومة احتواء ونتيجة تفاهمات دولية بأكثر مما تعبر عن اللبنانيين، والمجلس النيابي الذي دفع بهذه الحكومة، وجميع الحكومات السابقة، هو الذي يمثل التحالف الاجتماعي لمصلحة الطبقات المتنفذة وصاحبة الثروات والعلاقات الخارجية، ولا يمثل بالضرورة اللبنانيين داخل مفهوم مواطنة حقيقي، فالواقع أن صراع هذه الطبقة السياسية يمثل الديوك الشرسة، التي تتنافس على الموارد وتتصادم في ما بينها، وتستقوي على بعضها برصيدها من اللحم البشري، الذي يمثله أبناء الطوائف الذين ينتظرون وظيفة من الزعيم، أو أعطية من البيك، أو قرضا حسنا من الحزب.

السياسي في لبنان يتداخل مع المالي، والزعامات السياسية أفسدت المجتمع اللبناني المنتج، وجعلته ينتظر نصيبه من حصص المواقف المتأرجحة بين الدول التي ترغب في السيطرة على لبنان، بوصفه هدفا سهلا لتوجهاتها السياسية، مثل النظام الناصري في الخمسينيات والستينيات، وإيران في العقدين الأخيرين، وبينهما سوريا والعراق، وفرنسا التي تراقب من بعيد، وتتدخل عندما تكون الظروف مناسبة لرئيسها، من أجل ممارسة الوصاية، في الوقت الذي يتركون فيه الزمام للأمريكيين عندما تتعقد الأمور وتتزايد التكلفة. وسط هذا المشهد المرتبك، تتوثب إسرائيل بطريقة غير مسبوقة مأخوذة بنشوة مكاسبها بعد موقعة «البيجر» في سبتمبر من العام الماضي، ويبدو أنها يمكن أن تطرح نفسها، أو ستحاول بوصفها حليفا للدولة في لبنان، أن تحصل على دور في التخلص من سلاح الحزب، أو تقويض إمكانياته، وفي هذه اللحظة ستكون لبنان في مواجهة الاحتمالات الأصعب، وبعضها يمكن أن يمثل تهديدا لوجود لبنان الكبير، ويبدو أن تصريحات توماس براك العاجلة، بعد قرار نزع السلاح تجعل العودة إلى تهديداته المبطنة حول خرائط جديدة للبنان وسوريا، أمرا يستحق بعضا من الاهتمام والاعتبار.

تلقت الحكومة اللبنانية وعودا كثيرة بالدعم الاقتصادي والمالي في حالة نجاحها في تجريد الحزب من سلاحه، ولكن ما الجديد في أن تحصل لبنان على أموال طائلة، فهي تلقت بالفعل أموالا تفوق حاجتها الفعلية من مشروعات للبنية التحتية والتنمية، وتمكنت من تبديد ذلك وسط الغرف المظلمة للمحاصصة بين الطوائف والنهج الزبائني المكرس بعمق، وكأنه أسلوب إدارة ثابت ومتجذر، بالإضافة إلى ممارسات اتصفت بالفساد وتغيب النزاهة والشفافية، وعادت من جديد في كل مرة لأزمات اقتصادية عميقة، بينما كانت قائمة فائقي الثراء اللبنانيين تشهد وجوها جديدة من وقت إلى آخر.

من أسسوا للبنان بوصفه ساحة وباعوا مواقفه في المزاد العلني عليهم اليوم، وهم ما زالوا في مواقع التأثير السياسي والتمثيلي للبنانيين، أن يفكروا في بناء لبنان جديد يكون دولة حقيقية تقوم على أسس عادلة ومعايير واضحة في معاملة جميع اللبنانيين، أما أن يكون سلاح الحزب قربانا لحملة جديدة من المساعدات والمعونات، من غير أي جهد حقيقي لبناء دولة للجميع، فذلك ليس سوى وصفة للتصعيد، أو إزالة كرسي من لعبة الكراسي الموسيقية، بينما تستمر الحلقة المفرغة في التواصل على موسيقى الرعب وذبذبات القلق في لبنان كله.

مقالات ذات صلة