بين مسيرة العودة والحرائق في أحراش القدس وضواحيها

جواد بولس

حرير- أعلنت «جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين» الناشطة بين فلسطينيي الداخل، عن تعليق/ إلغاء مسيرة العودة، التي كان من المزمع تنظيمها، هذا العام، إلى أراضي قرية «كفر سبت» المهجّرة، القريبة من مدينة طبريا. وجاء في بيان الجمعية انه «على مدى أكثر من عقدين من الزمن، نظمت الجمعية مسيرات العودة بمشاركة عشرات الآلاف من بنات وأبناء شعبنا، تعبيرا عن تمسكنا الراسخ بحقنا المقدس في العودة ورفضنا لكل البدائل».

وحول الأسباب التي أدّت إلى اتخاذ «القرار الصعب» كما وصفته الجمعية، أنه «رغم تقديمنا الطلبات الرسمية وسعينا الجاد لاستيفاء جميع شروط الشرطة الإسرائيلية، واجهتنا عراقيل ممنهجة وشروط تعجيزية غير مسبوقة، من بينها حظر رفع العلم الفلسطيني، وتحديد عدد المشاركين بالمئات، وتهديد الشرطة بالدخول على مسار المسيرة والمهرجان الختامي لفرض شروطها». لقد استشعر القيّمون على إدارة الجمعية أن مماطلة شرطة إسرائيل بإصدار التصاريح اللازمة لإجازة المسيرة، وحملة التحريض الإسرائيلية الرسمية، غير المسبوقة، ضد المسيرة ومنظميها، تشي بوجود مخطّط مبيّت للمساس بالمشاركين، وبتأجيج الأجواء ضد مواطنيها العرب، وانتهازها للاعتداء عليهم وقمعهم بقسوة لا تحمد عقباها.

ورغم تعليق المسيرة المركزية، دعت الجمعية إلى إقامة فعّاليات بديلة وزيارة القرى المهجرة، والانخراط بنشاطات أخرى، «تأكيدا على أن ذكرى النكبة ومسيرتنا الوطنية مستمرة»، ومثلها فعلت «لجنة متابعة شؤون الجماهير العربية العليا»، التي أصدرت من جانبها بيانا دعت فيه المواطنين العرب «للتجاوب مع قرارات جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين، بزيارة مواقع القرى الفلسطينية المدمّرة والمهجّرة»، وأضافت أن السلطات الإسرائيلية «تستغل ظروف الحرب على الشعب الفلسطيني لتكثيف حملات الترهيب والملاحقة والقمع لجماهيرنا، والسعي لحظر النشاط السياسي أو التضييق عليه». لا أعتقد أن عزم حكومة نتنياهو على عرقلة مسيرة العودة كان مفاجئا، بحيث لم تتوقعه قيادات الجماهير العربية، تكفي مراجعة سريعة لمجموعة القوانين العنصرية التي بادرت إلى تشريعها هذه الحكومة، وأرفقتها بعدد من خطوات القمع الإدارية التنفيذية، كي نتوقع ما تخطط له الحكومة بحقنا، وهو من المؤكد سيتعدّى مسألة حظر النشاطات السياسية أو التضييق عليها، أو معاقبة من ينخرط فيها؛ وهو ما أكده رئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي سامي أبو شحادة، قبل يومين حين قال إن «التضييقات لن تتوقف بعد الحرب، بل ستستمر بوتيرة عالية. الأجهزة الأمنية اعتادت على القمع، والمجتمع الإسرائيلي انزلق نحو الفاشية، ولم يعد يكترث بحقوق المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل». فعلى نوايا هذه الحكومة لا يُراهن، وضد ما يخططه وزراؤها لتقويض بقائنا الآمن في الوطن، يجب التجهّز بحكمة والتخطيط بدراية والعمل بحزم. أزمة علاقتنا مع مؤسسات الدولة تزداد تعقيدا يوما بعد يوم؛ وهوامش تحركاتنا ضد سياسات الحكومة العنصرية تضيق بوتائر مقلقة، وساحات نضالاتنا، الشعبية والسياسية، التي كانت متاحة لنا، أصبحت عاقرا والاستفادة منها مستحيلة، فقد أُخضعت الكنيست بالكامل لسياسات أحزاب الحكومة، وتحوّلت إلى «مفقسة» للقوانين العنصرية، وأداة تحرص على تكريس مفهوم «يهودية الدولة» بالمعنى العرقي البغيض. أما الجهاز القضائي، لاسيما ما يسمى «محكمة العدل العليا «، ففقدت ما كان لديها من استقلالية نسبية في معاملتها مع مواطني الدولة الفلسطينيين، وتحوّلت بدورها إلى جهاز مرتدع أسير لأهواء الحكومة، وأداة شريكة في سياسات القمع والملاحقة. أزمتنا تتفاقم وحكومة نتنياهو لم تنجز مخططاتها بحقنا لغاية الآن بالضربة القاضية، لأنها تنتظر الفرصة المؤاتية، ولأنها تخوض آخر معاركها على جبهات أخرى، خارجية وداخل الدولة.

وصلتني أمس نشرة «عدالة، المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل»، وفيها تقرير حول عدة قضايا يتابعها المركز قضائيا، دفاعا عن حقوق المواطنين العرب الاقتصادية والاجتماعية. جاء في مستهل النشرة، أن الحكومة اليمينية المتطرفة أقرّت «سلسلة من السياسات والقوانين العنصرية الجديدة، التي عمّقت من تهميش الفلسطينيين.. ولهذه السياسات تداعيات اقتصادية واجتماعية خطيرة على المواطنين الفلسطينيين في الداخل»، لأنها تمس حقوق جملة من القطاعات الحيوية وتهدد بقاء عدة شرائح باتت مهددة جراء «اقتطاع الحكومة من الميزانيات المخصصة للبلدات العربية، وتعليق خدمات المواصلات المدرسية في بعض قرى النقب، وقطع مخصصات الرعاية الاجتماعية عن أهالي المدانين بمخالفات أمنية، وفصل معلمين عرب، وسحب التمويل من المدارس، بزعم «دعم الإرهاب» أي بسبب سياسة الإفقار والتركيع. من المفارقات أن يتزامن نشر تقرير «عدالة» مع قرار إلغاء مسيرة العودة لهذا العام؛ مفارقة كشفت عن تعقيدات المشهد الذي نعيشه وعن تخبط المؤسسات والهيئات في انتقاء خياراتها النضالية، ووسائلها في مواجهة سياسات إسرائيل، وهذه المرة فيما يتعلق بدور محكمة العدل العليا ونجاعة اللجوء إليها التماسا لعدلها كحكم بيننا وبين ظلم مؤسسات الدولة ووزاراتها. فأمام «جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين» توفرت إمكانية التوجه إلى المحكمة العليا والطعن بشروط الشرطة التعجيزية؛ لكن القيمين قرروا عدم الالتماس للمحكمة، نظرا «لرفض المحكمة التماسات مشابهة في السابق، ولعدم فتح الباب أمام فرض شروط إضافية. الشرطة عدائية وبن غفير عدائي والمحكمة العليا عدائية»، كما جاء على لسان مستشارة الجمعية القانونية، وهو موقف يستدعي المناقشة والتوضيح، خاصة إذا ما قارناه بموقف القيمين على مركز «عدالة»، الذين ما زالوا يؤمنون بأن المحكمة العليا ليست عدائية تماما، وإن لم تكن، في الوقت نفسه، نزيهة تماما، ويتوجهون إليها، كما جاء في نشرتهم.

لم تبدأ أزمتنا على عتبات المحكمة العليا؛ ولكن غياب الموقف الموحد والمبدئي تجاهها يدل على غياب الرؤى الواضحة، ليس إزاءها وحسب، بل في مواجهة عدة قضايا مبدئية بحاجة للمراجعة والمناقشة، خاصة ونحن نواجه حكومة لن يكفّ وزراؤها عن ملاحقتنا وافتعال جميع «الشروط التعجيزية» لإقصائنا بالكامل وإبطال شرعية نضالاتنا دفاعا عن حقوقنا، وشرعية عمل مؤسساتنا القيادية السياسية والمدنية. حكومة عازمة على استحداث وسائل قمع جديدة وتفعيلها بكثافة مثل اللجوء إلى سياسة الاعتقالات الإدارية والتنصت ومراقبة الأفراد بوسائل لم تستعمل من قبل. إننا، بالمختصر، قاب قوس «وطلقة» من مواجهة « أم المعارك» وعلينا أن نعدّ لها خياراتنا قبل أن يفوت الأوان. لقد مر عام ونصف العام على عملية حماس في أكتوبر 2023، ولم يهتد مجتمعنا بعدُ إلى سبل مواجهة واقعه الجديد؛ فسوى العمل «بصبر وبحكمة» والامتناع عن تحدي قرارات المؤسسة الحاكمة التعسفية، درءا لعواقب غضبها، كما جرى في عدة مناسبات في الأشهر الماضية، وهذه المرة أيضا، لم تنجح مؤسساتنا القيادية، رغم إطلاقها لبعض المبادرات التجريبية على نطاقات محدودة، بلملمة أنفاسها وبترتيب بيتنا والتوافق على برامج عمل نضالية، تعتمد ما يمكن تسميته وسائل «كفاحية واقعية» قادرة على مواجهة مخططات الحكومة وتضمن سلامة المواطنين وأمنهم.

أكتب مقالتي وما زالت الحرائق المريعة مستعرة في أحراش القدس، ومع انتشار مشاهد الحرائق، حاول بعض الفاشيين استغلال الحدث للتحريض «وتلبيس» الجريمة لأعداء الحكومة أي المواطنين العرب طبعا واليساريين معهم. لم «يشتر» السوق الإسرائيلي هذه الفرية حتى الآن؛ بيد أننا نعرف إنه في هذه الجهنم كل الاحتمالات ما زالت جائزة؛ فماذا لو نجح المحرضون بتثبيت افترائهم؟ ماذا لو نجحوا بإقناع قطعان اليمين ومن يدور بافلاكهم أن عربيا هو من أشعل النيران؟ من سينقذنا ساعتها، من «مسيرة عودة» ثانية، من الحريقة؟

مقالات ذات صلة