دموع بلا عيون… د . إيمان العكور

 

( تفاصيل ما حدث في جريمة جرش )

كنت اعتقد دوما انني قوية أمام كمية المآسي التي اشهدها من خلال تعاملي مع الأسر المحتاجة والايتام والاطفال والمرضى.. لكنني اكتشفت اليوم أني هشة لان حجم القهر والوجع كان اكبر من قدرتي على التعامل مع الموقف..!

سابدأ لكم الحكاية من البداية..
أمس عندما ذهبت لزيارة فاطمة التي اصبح لقبها ( ضحية جريمة جرش) كانت رغم وجعها والظلام الذي سجنت به لبقية عمرها تبكي بحرقة على اطفالها.. تتوسل منا احضارهم لها خاصة بعد أن علمنا ان عمهم قام فور حصول الجريمة بارسالهم إلى جدتهم وعمتهم ( ساخبركم لاحقا ماذا فعلوا) اللواتي يعشن في العقبة في محاولة لابعاد الأطفال عن امهم واستخدامهم ورقة ضغط عليها وأسرتها للتنازل عن حقها في عقاب المجرم زوجها..

كانت الاخبار المتناقلة ( والتي للأسف لا يتحرى مطلقوها اي دقة وانسانية) ان ادارة حماية الأسرة هي التي قامت بأمر تسليم الأطفال ونقلهم للعقبة..!

على الفور قمت بالتواصل مع الباشا فاضل الحمود مدير الامن العام ومناشدته إرجاع الأطفال لأمهم رحمة بها لان الأصل في القانون هو الإنسانية قبل كل شيء..
كان رقمه خارج الخدمة حتى استلم رسالتي اليوم صباحا وقام فورا بالتواصل معي ومع الجهات الأمنية المختصة ممثلة بادارة حماية الاسرة والتي اليوم وبفضل ادارتها ودورها الانساني الراقي كانت سببا في لم شمل الام مع اطفالها بعد جهود كبيرة قام بها كادرها مع الأطفال المصدومين..
الساعة الثانية عشر ظهراً.. كلمني الدكتور طلال العبداللات مدير ادارة حماية الأسرة ليخبرني ان الاطفال سيكونوا مع امهم بعد ساعات بأوامر من الباشا الحمود.. وطلب مني ان اذهب الى الإدارة ليطلعني على التفاصيل..!

بصراحة ذهبت وانا اعتقد انني سأجلس معه للاستماع إلى ما حدث مع الاطفال وكيف تم استعادتهم من جدتهم.. لاتفاجئ أن بانتظاري كان واحدا من اقسى المواقف التي عشتها في حياتي..
في مكتبه جلس والد فاطمة جد الأولاد وعلى وجهه الآف الأسئلة وعيونه التي كان واضحا انها لم تنام منذ ايام تختزن وجعا بلا نهاية. ومعه جلس ايضا خال الأطفال..
كانت هناك المحامية الانسانة ايفا ابوحلاوة التي تتولى قضية فاطمة، اضافة الى ممثل عن وزارة التنمية وعدد من الأخصائيات النفسيات من ادارة حماية الاسرة اللواتي ترفع لهن القبعة على ما قمن به من عمل جبار في التعامل مع الاطفال..

سانقل لكم المشهد بكل وجعه..
في حضن الطبيبة النفسية كانت تجلس طفلة عمرها سنتين ونصف تلتهم البسكوت والعصير وتتلفت يمينا وشمالا بعيون حائرة يسكنها الخوف.. تلك الطفلة هي نور التي كانت في حضن والدتها عندما كان المجرم يقتلع عيونها وسط صراخها دون ان تأخذه رحمة بها..

نور كانت الشاهد الوحيد على الجريمة بعد ان اغلق الباب على الاولاد محمد وعبدالكريم خارج الغرفة..
نور التي لم تنطق حرفا منذ الحادثة التي اتمنى ان تنمحي من ذاكرتها البريئة.. والتي وبكل وحشية تم (اختطافها) واقول ذلك لان الدافع وراء ابعادها مع اخوتها بعد الجريمة إلى منزل الجدة كان جريمة أخرى مع سبق الاصرار من قبل اعمامها لتزوير الحقائق وتشويه عقول الاطفال..
أول المواقف التي ابكتنا جميعا.. رجالا ونساءا عندما تم الاتصال بالام فاطمة ووضعها على السماعات العالية كي تسمع طفلتها نور والتي يدلعونها نعنوعة، صوتها
فجأة رمت الطفلة التلفون ووضعت يديها الصغيرتين على عيونها مرعوبة وبدأت بالبكاء، يا اللله.. صورتها تدمي القلب

ظلت والدتها تناديها نعنوعة.. انا ماما بدك تيجي عندي.. لحظات مرت كدهر.. وانا اراقب وجهها الصغير وهي تحاول ان تمحو تلك المشاهد الدموية من ذاكرتها.. لحظات وابتسمت ولأول مرة منذ الجريمة تمتمت بكلام لأمها.
الأم التي لولا اطفالها لما تحملت كل ذلك الذل والإهانة كل تلك السنوات..

حملت نور بعدها التلفون ومشت خارج الغرفة فرحة لتخبر اخوتها أن ماما تسأل عنهم..
رأيت في تلك اللحظة الطفلة تحولت إلى أم.. وما ادراكم ما هو قلب الأم..

في الخارج كنا نسمع صراخا ومناقشات حادة عرفت انها عمة الاولاد التي احضرتهم من العقبة بناءا على اوامر مدير الامن وهي ترفض وتصر ان الاولاد لا يريدون الذهاب عند أمهم.. الأولاد كانوا مرعوبين ولم يتجرأوا الدخول لرؤية جدهم.. خوفا من عمتهم

الدكتور طلال الذي احسده على اعصابه وطول باله ومهنيته في التعامل مع العمة الهائجة ظل مصرا أن تغادر المكان وان يتم ابعاد الاطفال عن تأثيرها خاصة بعد ان اخبرونا عن كمية السموم التي زرعوها في عقولهم خلال ايام بقائهم معهم.
استغرق الأمر قرابة النصف ساعة، امضتها الاخصائيات مع الاطفال قبل ان ينجحن في امتصاص السموم المزروعة في عقلهم واقناعهم بالذهاب لرؤية والدتهم.. وكان ذلك
حال خروج مصدر الرعب. عمتهم

دخل اولا عبد الكريم وسط تصفيقنا وارتمى في حضن جده الذي اجهش بالبكاء فهو يراهم للمرة الأولى منذ الجريمة

بالمناسبة ليلة الجريمة كان جميع اهل فاطمة تحت تأثير الصدمة ويتراكضون بها من مستشفى لآخر لدرجة انهم لم يفكروا بالأطفال وكان على حماية الأسرة وحفاظا على الاطفال وعدم توزيعهم على دور الرعاية لحين انتهاء القضية ان تودعهم عند احد الاقرباء وكان العم هو من تقدم بطلب اخذهم.. لكنه كان يبيت جريمة أخرى كما قلت.. ابعادهم قدر المستطاع عن والدتهم والاستفراد بهم لتطويعهم،
مهمة قامت بها الجدة والعمة والعم كما اخبرونا الاطفال..

دخل بعدها الابن الاكبر محمد.. قام بعناق جده وعمه وفورا قال لجده هل صحيح انك ستقلع عيون اختي نور بدلا من عيون امي بنتك..!
صعقنا من هول الكلام.. وبكى جده وقال له.. أنا يا جدي اعمل هيك.. كيف ممكن تصدق.. انتو نور عيوني وعيون امكم..
قال محمد : عمي وجدتي قالولنا انه امكم ما بدها إياكم.. وانها صارت عمياء، ثم سأل جده، عن جد أمي بطلت تشوف..
قال له الجد: لا انشالله بعد فترة بترجع عيونها بتطيب..
وجاء الخبر الصاعق الثاني..
” يا جدي قول لأمي تطلع ابوي من السجن وتتنازل عن القضية..” هذا هو الإجرام بعينه
اطفال شاهدوا جريمة بشعة امامهم بدلا من الاهتمام بنفسيتهم، قام اهل ألاب الذي هو ابن عمها، بتسميم افكارهم واستغلالهم من أجل ابنهم المجرم، تلك هي الوقاحة بعينها وكلهم شركاء بالجريمة

خلال ربع ساعة.. تغيرت نفسيات الاطفال
وكانوا مستعدين للذهاب لامهم التي كانت تبكي حرقة في المستشفى خوفا عليهم.. وهي التي قدمت عيونها ثمنا كي لا يخدشهم احد…!
لن اطيل.. الاطفال المساكين بحاجة كبيرة لعناية نفسية مركزة كي يتخطوا المحنة.. وهذا ما سيتم.
الصغيرة نور.. اخذتها خارج الغرفة ركضنا في الممرات.. وعلت ضحكتها وكانها تريد أن تنسى.. ان تمحو مشهد الوجع والدم والصراخ..!
ابكتني رغم ضحكتاها
لأنها كانت كل دقائق تتوقف وتضع يديها على عيونها..
حتى عندما قدمت لها بعض الالعاب من الادارة كان بينها كلب احمر كبير وجميل لتجلس عليه له عيون كبيرة مجرد أن رأته غطت عيونه ورمته..!

المهم.. تركنا ادارة حماية الاسرة.. التي لابد وان نقدم لها تحية امتنان على ما قدمته من حرفية عالية في التعامل مع هذه القضية وغيرها.
وكما قال لي الدكتور العبداللات
هذا واجبنا.. عملنا هو تشاركي مع كافة الجهات المعنية سواء وزارة التنمية ام وزارة الصحة وحتى مؤسسات المجتمع المدني المعنية بحماية الاسرة.. لان الهدف في النهاية هو المحافظة على نسيج عائلي لا مكان فيه لمجرم او معنف.

في المستشفى كان المشهد اكثر حزنا..
فاطمة تجلس على سريرها.. اصوات كثيرة حولها، العائلة ، الأخوات ، الأطباء
رنين تلفونات، ضحكات، وظلام
إلى ان سمعت صوت اطفالها
عاد النور لقلبها.. فرأتهم في حضنها
نور جلست تتلمس عيون امها وكانها تخبرها لا تخافي.. أنا معك يا ماما
أنا عيونك..!
محمد وعبدالكريم.. بكوا وهم يسالونها
متى راح تصيري تشوفينا..!

فاطمة.. انهمرت دموع فرحها بعودة اطفالها
مخلوطة بدموع قهر لن ينتهي لانها لن تراهم وهم يكبرون..!
مسكينة هي فاطمة.. امرأة بسيطة عفوية جميلة الوجه حتى ولو بلا عيون
قالت لي.. الحمدالله على كل شيء
كان بامكاني ان اكون ميتة الآن
لكن الله اراد لي الخير علشان اطفالي..
مؤمنة صابرة على حكم الله..
لكنهاقالت لي.. لن يبرد قلبي حتى أرى قصاصا عادلا بحق المجرم زوجها.. والذي كما وصفت عاشت معه كل انواع الذل والتعنيف والضرب وآن الاوان ان ينال عقابه.. اما هي فراضية بحكم الله.. كل ما ارادته في الحياة هو سلامة اطفالها.. وها هم سالمين حولها بعيدا عن الوحش والدهم..!
ولم تنسى ان توجه شكرها لمدير الأمن العام الباشا الانسان لايعازه بإحضار اطفالها إلى حضنها..مهما كلف الأمر.

فاطمة تختزل داخلها قهر نساء كثر، عاشوا ولا زال العديد منهن يقتلن بصمت كل لحظة دون ان يسمع انينهن أحد..
رسالتها اليكن جميعا..
لا تسكتن بعد اليوم
لا تتصالحن مع الذل والاهانة
لا تمتن وانتن على قيد الحياة…!

 

حرير – ويذكر بأن الاطفال الان برعاية بيت جدهم لأمهم الذي اخبرهم اليوم ، والله يا جدي غير اعمل لكم بيت واربيكم أنا.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة