
أمريكا والعراق وإيران: حاضر صدى ذلك الماضي؟
صبحي حديدي
حرير- ملفات إقليمية عديدة، جيو ـ سياسية وأمنية واقتصادية وعسكرية، تواصل وضعَها على الطاولة حربُ دولة الاحتلال الإسرائيلي ضدّ إيران، حيث يستوي أن يكون بعضها قد رُفع مؤقتاً عن التعاطي المباشر تحت ضغط توترات محددة ملموسة (مسألة الوجود العسكري الأمريكي، وقوات التحالف الدولي، على الأراضي العراقية)؛ أو أنها ساخنة، دائماً، ولكنّ ملامستها مؤجلة على مبدأ دفع البلاء إلى حين (تعقيدات الميليشيات العراقية الموالية لطهران عموماً، و«الحشد الشعبي» بوصفه أحد مكوّنات الجيش العراقي النظامي).
وأن تكتسب تلك الملفات سخونة إضافية، مقترنة بمخاطر أكثر شدّة واتساعاً، في هاتين الحالتين وسواهما، أمر لا يُبطل الكثير من معضلات تأسيسية ترافقت أصلاً مع الغزو الأمريكي للعراق سنة 2023، والذي اتخذت بعض مآلاته سمة كبرى فارقة، لم تكن محسوبة لدى أدمغة الغزو بقدر ما كان نقيضها هو المرجوّ: هيمنة طهران، مباشرة أو عبر أذرعها العراقية المذهبية، على القرار العراقي. ولعلّ هذه المفارقة هي الصورة الأعلى تجسيداً للورطة الأمريكية، غير المنفصلة عن ورطة إسرائيلية محاذية كانت قد راهنت على أنّ سقوط نظام صدام حسين سوف يحيّد العراق، أو حتى يدنيه من درجات وئام مع دولة الاحتلال.
وحين يهجس رجال إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باحتمالات «اتساع نطاق» الحرب الإسرائيلية على إيران، لتشمل استهداف القوات والقواعد الأمريكية في المنطقة عموماً وفي العراق خصوصاً؛ فإنّ للهواجس هذه جذورها في خطل حسابات السلَفين الجمهوريين في البيت الأبيض، جورج بوش الأب وجورج بوش الابن، ولها جذور أخرى في تلك العقلية المغامرة والتوسعية لرهط «المحافظين الجدد» يومذاك… وما الحاضر إلا صدى لذلك الماضي.
الأسهل، بل الأشدّ سهولة، في تلك المغامرة الأمريكية، ذات الصفات العسكرية والإمبراطورية والإمبريالية، كان تحقيق الانتصار العسكري، إذْ شتّان ما بين الآلة العسكرية الأمريكية الأقوى والأعتى، والآلة العسكرية العراقية الصدئة العتيقة. سهل، أيضاً، كان اختراع واشنطن عشرات الذرائع التي أوهمت من يسهل إيهامه بأنّ الحرب خيار وحيد، أو أنها خارجة عن إرادة البيت الأبيض، مفروضة على رئيس أمريكي يكره الحرب! السوابق كانت ماثلة لتوّها: قرار واشنطن قصف يوغوسلافيا في العام 1999 نهض على هذا الخيار: إمّا أن تسلّموا كوسوفو، ومن ثمّ البلاد بأسرها، للغزو الخارجي، أو هي الحرب؛ وفي أفغانستان 2001: إمّا تسليم أسامة بن لادن، أو الحرب؛ وفي العراق 2003: إمّا رحيل صدّام حسين أو الحرب.
غير أنّ الأوحال الحقيقية في المستنقع العراقي لم تبدأ من حيث انطلاق الشطر العسكري من برنامج الغزو الأمريكي، وليس أيضاً من اكتمال الحجة الأمريكية في تغليب الحرب على الدبلوماسية؛ بل من حيث انتهت مفاعيل هذَين الشطرين تحديداً، حين توجّب على الغازي مواجهة الحقائق الأخرى ـ الصلدة الصعبة العسيرة، الأشدّ إثقالاً للكاهل من حقائق القتال ـ ومعالجتها واحدة تلو الأخرى. وما جعل هذه المهامّ شائكة أكثر فأكثر كان حقيقة أنّ الولايات المتحدة وضعت المجتمع الدولي، ممثلاً في الأمم المتحدة وأقرب الحلفاء الأوروبيين، وراء ظهرها تماماً… وليس من دون غطرسة وتصغير وتحقير.
والحال أنّ تجارب الحروب، كافة أو تكاد، وحروب الولايات المتحدة تحديداً؛ برهنت وتبرهن على خلاصة راسخة: كسب الحرب عسكرياً، أو حتى جيو ـ سياسياً في مناحٍ عديدة، لا يعني البتة كسب السلام. أو، على وجه الدقة، ذلك السلام في معناه الأعرض المركّب، الذي يتجاوز وقف إطلاق النار وانتهاء الأعمال القتالية، والذي لا يعني ما هو أقلّ من استثمار نتائج الحرب لصالح القوّة الظافرة. و«السلام» العراقي الذي سعت إليه الولايات المتحدة كان متعدد الأوجه نظرياً، ولكنّه عملياً تركز في ملفات ثلاثة: النفط العراقي، الاستيطان العسكري في إطار القواعد العسكرية الدائمة وشبه المتحركة، والتحويلات السياسية التي اصطُلح على تسميتها بـ«تغيير النظام».
ففي مسعى السيطرة على النفط العراقي، وكان في سنة 2003 الاحتياطيّ الأوّل في العالم حسب تقديرات متقاطعة، لم تقتصر ستراتيجية واشنطن على هدف تأمين حاجاتها إلى الطاقة، فحسب؛ بل تطلعت إلى إكمال طوق السيطرة غير المباشرة على نفط السعودية والكويت، والإمساك تالياً بورقة ضغط اقتصادية ـ سياسية كونية حاسمة (أطلق عليها جوستن بودر تسمية «الفيتو النفطي»). وفي الترجمة العملية لأبجدية تلك السيطرة، كان من المقدر أن تمتلك واشنطن أدوات ضغط متعددة الأشكال، تستهدف اقتصاديات دول منافسة (أوروبا واليابان مبدئياً) أو مرشحة للمنافسة مستقبلاً (مثل الصين وروسيا والهند).
وفي ملفّ الاستيطان العسكري أدرك مخططو البنتاغون، قبل غزو العراق وبعده، أي في جغرافيات شاسعة واسعة؛ أنّ الولايات المتحدة في حاجة إلى تواجد عسكري، دائم الجاهزية ومستقرّ التفوّق، في منطقة الشرق الأوسط إجمالاً. لكن الإدارات الأمريكية المتعاقبة، جمهورية كانت أم ديمقراطية، ظلت تدرك من جانب آخر أنّ استمرار تواجدها الكثيف في السعودية والكويت تحوّل إلى عبء سياسي على آل سعود وآل الصباح؛ وبات بمثابة حاضنة خصبة لتفريخ مشاعر العداء للولايات المتحدة، واستيلاد المزيد من نماذج أسامة بن لادن، وتعريض أمن النظامين الحاكمين لمخاطر مباشرة. وهكذا فإنّ قرار غزو العراق واحتلاله عنى، أيضاً، الاستيطان فيه عسكرياً إلى أمد طويل وربما أبدي (في حسابات واشنطن على الأقلّ) وتخفيف العبء عن دول الخليج، وحراسة دولة الاحتلال الإسرائيلي عن بُعد، وضبط التمدد الإيراني على امتداد ما سُمّي بـ«الهلال الشيعي»، وإحكام القبضة على المنطقة بأسرها عملياً.
وأمّا الملفّ السياسي، وكان في بعض حيثياته العجيبة المتناقضة ما حلم به رجالات الرئيس (من أصحاب «مشروع قرن أمريكي جديد»، وأمثال بول ولفوفيتز وريشارد بيرل)؛ حول تحويل العراق إلى دولة ـ أمثولة، حاملة للقِيَم الأمريكية (في طبعتها الرجعية أو النيو ـ محافظة) وناقلة لـ «فيروس الديمقراطية» إلى أربع رياح الشرق الأوسط. والأسابيع القليلة التي أعقبت اجتياح العراق تكفلت بدفع هذا الحلم إلى الكواليس بعض الشيء، ولكن إلى معطيات الواقع الفعلي على الأرض. ليس لأنّ أصحابه فقدوا الإيمان به (عن حسن نيّة أو سوء طوية) بل لأنّ الأولوية القصوى في أشغال الإدارة مُنحت لاعتبارات التمهيد العسكري على الأرض؛ الأمر الذي سوف يستولد موضوعياً سلسلة تفاهمات مع قوى سياسية وميليشياتية عراقية شيعية، هي ذاتها التي سوف تُدخل النفوذ الإيراني من أوسع الأبواب.
واليوم، مع اشتداد المواجهة العسكرية المفتوحة بين دولة الاحتلال الإسرائيلي وإيران، يصعب على ترامب أن يقلّب الرأي في الدخول عسكرياً على الخطّ من دون احتساب هذا المشهد الأمريكي في العراق، بوصفه حاضراً ليس أقلّ من صدى لذلك الماضي، بادئ ذي بدء؛ ولأنه، تالياً، بات أكثر تعقيداً على صعيد الملفات الثلاثة مجتمعة في كتلة تأثير واحدة، أو منفردة حيث لكلّ ملفّ عواقبه في موازين الخسارة والربح. وإذا كانت كتائب «الحشد الشعبي» والفصائل الشيعية لم تتحرك بعدُ إلا رمزياً، حتى الساعة، فالأرجح أنّ هذه العطالة مؤقتة؛ أو الأحرى الافتراض بأنها رهن قرار المرشد الأعلى علي خامنئي في تحريك أذرع إيران، هنا وهناك، وأياً كانت مقادير ضعفها وانحسار قواها.
وليس البتة جديداً على التاريخ أن يكون القادم أعظم بلوى على ثلاثي واشنطن وطهران وبغداد، ما دامت تل أبيب اليوم هي رابعة الأطراف ومحرّك التسخين.